الاثنين، كانون الأول ١٠، ٢٠٠٧

الأردن: انتخابات الأحكام العرفية

د. إبراهيم علوش

اجتاحت الأردن في أواخر شهر ت1/ اوكتوبر 2007 حمى الترشح للانتخابات النيابية للمجلس النيابي الخامس العشر، وطفت الإعلانات الانتخابية على جدران الأبنية وأعمدة الشوارع وحيثما حولت ناظريك، وتدافع المرشحون لإقامة المآدب لاستقطاب الأصوات، وتصاعدت الحملات الانتخابية وطغى عليها الطابع العشائري بدرجة أساسية، والإقليمي والطائفي بدرجة أقل، وتداول الناس والصحف إشاعاتٍ كثيرةً عن عمليات نقل أصوات من منطقة إلى أخرى، وعن نشاط محموم للمال السياسي في شراء الأصوات.

ومع أن مجلس النواب الرابع عشر كانت قد انتهت ولايته في شهر حزيران / يونيو 2007، وأن وسائل الإعلام تداولت منذ ربيع عام 2007 توقعات كثيرة عن تأجيل الانتخابات النيابية، فإن مرسوماً ملكياً بحل مجلس النواب تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة صدر في شهر آب/ أغسطس 2007، وأعلنت إثرها حكومة معروف البخيت 20 نوفمبر/ ت2 2007 موعداً لملء 110 مقاعد في مجلس النواب، فيما يتم تعيين أعضاء مجلس الأعيان البالغ عددهم 55 عيناً بشكل مباشر من السلطة التنفيذية.

وبعد التكهن بإمكانية مقاطعة الحركة الإسلامية للانتخابات، خاصة بعد الشوائب المحيطة بالانتخابات البلدية في أخر تموز / يوليو 2007، فإن الحركة الإسلامية حسمت أمرها بالمشاركة، وكذلك حسم أمره بالمشاركة بعض مرشحي القوى القومية واليسارية، فيما انسحب آخرون، وهو ما يمثل عملياً تمسكاً واضحاً بالانخراط في العملية السياسية، وبالتطبيع مع الأحكام العرفية وبالمشاركة الشكلية في تطبيقها دون وجود فرصة أو حتى مشروع للتأثير فيها فعلياً.

وقد يخال للغريب الذي يراقب سعير الانتخابات من بعيد، ولهيب التنافس، والمال المسفوك على الحملات، بأن ما يجري يتعلق فعلاً بانتخاب ممثلين للشعب الأردني يستطيعون التأثير في القرار الوطني!

لكن بالدخول في مجلس نواب لا يملك من أمره شيئاً، في ظل تغول الجهاز التنفيذي على القرارات الأساسية في الدولة، وفي ظل التوجه الرسمي للتحالف مع الطرف الأمريكي-الصهيوني على مستوى الإقليم، وفي ظل تحول مجلس النواب إلى مجرد واجهة لبروزة ممثلي العشائر والطوائف والمناطق والمخيمات، أو لبروزة ممثلي الكوتا النسائية إرضاءً للمنظمات الدولية والدول المانحة، فإن الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية واليسارية والإسلامية المشاركة في هذه الانتخابات تقدم المشروعية للحكم العرفي على طبقٍ من ذهب ومجاناً، وتسهم في تغييب الحوار الوطني المفترض أن يناقش ويعيد النظر في التوجهات الإستراتيجية للدولة!.

والحقيقة أن هذه الانتخابات نتائجها معروفة مسبقاً. فالدوائر الانتخابية تم تقسيمها بصورة محددة عام 2003 لتنتج نتائج محددة، بغض النظر عن اسم المرشح الناجح. كما أن قانون الصوت الواحد الذي سن لإنتاج نواب خدمات ومناطق بدلاً من نواب وطن، نواب هم أقرب لمخاتير في الواقع، كان الشرط الضروري عام 1993 لإقرار معاهدة وادي عربة في مجلس النواب الأردني.

فالقانون الانتخابي نفسه ينتج تمحوراً حول العشيرة والطائفة والهوية الجهوية، وينتج المرشح الأقدر على تقديم الخدمات المباشرة للناخبين في دائرته، أي المرشح الأقرب للجهاز التنفيذي عملياً، أي الأقدر على إيجاد وظائف ومنح وإعفاءات، أو المرشح الأقدر على هدر المال لتحقيق رغبة شخصية في "الوجاهة" في مجلس النواب بعد مراكمة الثروة الكبيرة.

ومثل هذا الجو يسهم في تذرير أو تفكيك المجتمع إلى شذرات، ويعزز ذلك غياب أي حوار حول البرنامج السياسي (غير الخدماتي) للمرشح وعدم طرحه لأية قضية وطنية إلا للإشارة لهويته الإقليمية بشكل غير مباشر، أو لاستقطاب ناخبين من هوية إقليمية محددة (ويمكن أن نأخذ هنا شعار الأمن الوطني أو الدولة الفلسطينية كمثال!).

ولم تنشأ حالة الخواء السياسي هذه من عدم أيضاً، بل من مجموعة القوانين العرفية التي وضعت المجتمع الأردني في قبضة الجهاز التنفيذي تماماً، ومنها مثلاً:

1) قانون الاجتماعات العامة الذي يعطي الحاكم الإداري حق منع أي لقاء عام دون إبداء الأسباب. ويتم استخدام أقصى درجات العنف ضد أي اجتماع لا يحصل على موافقة مسبقة من الحاكم الإداري.

2) قانون الأحزاب الذي يمنع الأحزاب من مزاولة العمل السياسي في القطاع العام (أكبر فئة من القوة العاملة)، أو بين الطلبة (أكبر فئة بين الشباب)، أو في المساجد والكنائس (في مجتمع متدين مثل مجتمعنا!). وفي لفتة سوريالية، تقوم الحكومات المتعاقبة بعد ذلك بالتباكي على حال الأحزاب الأردنية وتدعو لوضع برامج لإنقاذها من التآكل والإضمحلال!!

3) والأهم طبعاً قانون الصوت الواحد الذي يفصل المجتمع على مقاسات مناطقية وعشائرية وطائفية، وبتعبير أخر، يعطي الناخب صوتاً واحداً لمرشح واحد، وليس لقائمة مثلاً، ويربطه بدائرة انتخابية محددة، وليس بانتخابات بالقائمة النسبية على مستوى كل الأردن مثلاً، وتكون النتيجة ربط المصالح العامة للمواطن بشخص واحد وبدائرة جغرافية ضيقة، مما ينتج الولاء ما دون الوطني بشكل طبيعي!

وهذا بالإضافة إلى حزمة كبيرة من الأحكام العرفية الأخرى التي تمت قوننتها بالجملة وبالعشرات من خلال مجالس نواب الصوت الواحد، فأصبحت الأحكام العرفية قوانين مرعية.

ولو بدأنا لن ننتهي، فمن تعيين نصف مجالس اتحادات الطلبة في الجامعات زائد الرئيس، إلى قانون مكافحة الإرهاب الذي يتجاوز على كل الحقوق المنصوص عليها في الدستور الأردني، إلى قانون المطبوعات والنشر إلى قانون إطالة اللسان إلى محكمة أمن الدولة إلى تعيين أعضاء مجلس الأعيان تعييناً إلى عشرات القوانين الأخرى التي ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا نتحدث فعلياً عن أحكام عرفية تشكل تقهقراً ليس فقط عن الدستور الأردني، بل حتى عن القانون الأساسي في أمارة شرق الأردن كما وثق الصديق يوسف عكروش في مقالة له عن انتخابات 2007.

ولكن المهم أن القانون العرفي أصبح يسمى "ديموقراطية" وصارت له انتخابات، فنال بذلك كلا الحسنيين وصار للأحكام العرفية واجهة ديموقراطية...

الحقيقة أن هذه مهزلة انتخابات بكل ما للكلمة من معنى، ولذلك، فإن المواطن المعني بالوطن ككل، وبالقرار الوطني، سوف لن يرضى على نفسه أن يكون شاهد زور، وسوف يرى وجاهة مقاطعتها، كما يفعل الكثير من الأردنيين الذين لا يرون أمامهم في هذه الحملات سوى استعراضات فارغة، ولو كانت هناك قوى وأحزاب وشخصيات تطرح القضايا الوطنية الكبرى بجدية وقوة لربما اختلف الأمر، ولكن ليس هذا هو الحال الآن بالتأكيد.

ليست هناك تعليقات: