الاثنين، شباط ١١، ٢٠٠٨

فيلم الملوك الثلاثة: جورج كلوني وغطرسة القوة الأمريكية قبل احتلال العراق

د. إبراهيم علوش

قبيل الذكرى الأولى لاغتيال الرئيس الشهيد صدام حسين، أعادت قناة دبي الفضائية عرض فيلم "الملوك الثلاثة" Three Kings من بطولة الممثل المشهور جورج كلوني، وهو فيلم تدور أحداثه حول عملية سرقة ينظمها عددٌ من الجنود الأمريكيين للذهب الكويتي الذي زعموا أن الجيش العراقي أخذه عام 1990 لإحدى مدن جنوب العراق. وقد أطلق الفيلم رسمياً في 1/10/1999، وبالتأكيد لم يكن توقيت إعادة عرضه على قناة دبي صدفة قبيل الذكرى الأولى لاستشهاد صدام حسين بأيام، وقبل تلك الذكرى بثلاثة أسابيع تقريباً، في 9/12/2007 بالتحديد، كان جورج كلوني يفتتح الدورة الرابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، بحضور عدد كبير من الممثلين المشهورين العرب والأجانب، وعندما كان عريف الحفل يقدم كلوني، كان التصفيق يعلو بشكل مفتعل كلما ذكر فيلم "الملوك الثلاثة"!

لذا، كان لا بد من العودة للفيلم ومن نقده، خاصة أن كلوني عرف عنه عداءه لسياسات جورج بوش. ولكنه عام 98 لم يكن ممثلاً سينمائياً مشهوراً، بل كان معروفاً في التلفزيون، ولذلك قفز على فرصة تمثيل فيلم الملوك الثلاثة قفزاً، ولو من فوق قناعاته.

وقبل تحطيم المقاومة العراقية لغطرسة القوة الأمريكية، كان نموذج أفلام الكابوي الأمريكية التي تسحق فيها حفنة من الجنود الأمريكيين جيوشاً بأكملها، تلك الأفلام التي تتعامل مع العرب والمسلمين بازدراء واستخفافٍ تكرسا في صور نمطية ذات بعد إمبريالي بالضرورة، وهذه "الحقيقة الموازية"، التي تسقيها هوليوود ووسائل الإعلام العالمية للأمريكيين وشعوب الأرض، وللعرب أنفسهم، كانت الزيف المتعالي الذي غشي فيلم "الملوك الثلاثة"، فأزالته خسائر الأمريكيين وممارساتهم في العراق. ولكن يبدو أن بعض العرب ما فتئوا يصرون على تكريس تلك الصورة النمطية، ولو على حساب أنفسهم، فقط بسبب عدائهم للقيادة العراقية وللمقاومة العراقية!

ونلاحظ أن الأفلام التي تتناول العراق اليوم باتت تركز على معاناة الجنود الأمريكيين أكثر من السابق، ولم تعد تتعامل مع الميدان العراقي كنزهة صيد بري بلا خسائر. وكان الإعلام الأمريكي عشية احتلال بغداد في 9/4/2003 يجري مقابلات مع جنود أمريكيين يتذمرون بأنهم لم تتح لهم الفرصة للمشاركة بالمعارك. والآن طبعاً لم يعد أحد منهم يتذمر أبداً لهذا السبب! وكانت شركة ورنر برزارذ التي أنتجت الفيلم قد قررت عام 2004 أن تعيد إطلاق فيلم "الملوك الثلاثة" في دور العرض وعلى الدي في دي بعد حرب العراق لأنها اعتبرت أن الحرب جعلت من مادته أكثر قيمة، وبالنظر لطبيعة المادة المؤيدة للحرب والداعية لإسقاط صدام حسين، فإن الاستنتاج الواضح هنا هو أن هوليوود تلعب دوراً سياسياً تعبوياً مباشراً في التحريض على العدوان والحروب الإمبريالية في الكثير من الأحيان، ولو وجدت بعض الأفلام الناقدة بشكل محسوب جيداً للحروب الخارجية. وفي هذه الحالة، يتبنى الفيلم موقفاً تحريضياً طائفياً بشكل مباشر، حيث يعتبر أن رسالته هي طرح قضية اضطهاد الشيعة في جنوب العراق، وتدخل الجنود الأمريكيين للدفاع عنهم، وفي خضم ذلك، يقدم الفيلم الخطاب الطائفي التحريضي بشكل علني ومباشر.

وقد كلف الفيلم 48 مليون دولاراً، وبلغت عائداته حوالي 150 مليون دولار في أمريكا الشمالية فقط، وقد تم تصويره في صحارى كاليفورنيا واريزونا والمكسيك، أما مخرج فيلم "الملوك الثلاثة" فاسمه ديفيد رسل David Russell، وهو يحمل شهادة بالعلوم السياسية واللغة الإنكليزية، وأبوه يهودي وأمه كاثوليكية، أما عنوان الفيلم، الملوك الثلاثة، فمأخوذ من إحدى التراتيل عن ميلاد السيد المسيح عن "الحكماء الثلاثة" الذين قدموا إليه من الشرق بعد ميلاده عليه السلام، وإحدى تراتيل عيد الميلاد بالإنكليزية تحمل عنوان "نحن ملوك الشرق الثلاثة"، والصلة الوحيدة لهذا العنوان بالفيلم هو قول أحد "أبطاله"، بعد اكتشافهم المزعوم لخريطة تدل على مكان الذهب الكويتي في العراق: "نحن الملوك الثلاثة سنسرق الذهب..."، في تهكمٍ واضحٍ يفترض أنه "خفة دم"! فأبطال الفيلم من الجنود الأمريكيين أربعة لا ثلاثة...

والفيلم يبدأ أساساً بعملية قتل لجندي عراقي يرفع العلم الأبيض لأن أحد الجنود الأمريكيين قال أنه يخفي رشاشاً. ليست مشكلة طبعاً! لا أحد يعاقب أو يُسأل هنا. وبعدها يبدأ اعتقال الجنود والضباط العراقيين بطريقة مهينة، ليتم اكتشاف خريطة سرية مخبئة في جسد أحد الضباط العراقيين في مكان خاص. وتقع الخريطة بيد ثلاثة من الجنود وضباط الصف الأمريكيين الذين يحاولون فهم ما تعنيه حتى يأتي جورج كلوني، الذي يلعب في الفيلم دور رائد في القوات الخاصة، فيقنع الثلاثة الذين وجدوا الخريطة أنها الطريق للذهب الكويتي، وأن الأفضل أن يخفوا أمرها عن القيادة حتى يصلوا للذهب ويسرقوه لأنفسهم. وهكذا يتم تكريس فكرة نهب الكويت بقرار رسمي من العراق في صيف عام 1990... وبالمقابل، يتم تصوير أي تجاوز من قبل الجيش الأمريكي باعتباره تجاوزاً فردياً لا علاقة للجيش الأمريكي به، وهو الأمر الذي انكشفت حقيقته بجلاء في أبو غريب وكل ممارسات الاحتلال في العراق.

المهم يقرر الأربعة الذهاب إلى داخل العراق لسرقة الذهب، في ظل وقف إطلاق النار الذي ساد بعد حرب الخليج عام 1991، وهنا تبدأ أحداث الفيلم لتتجلى عقدته الدرامية من خلال الحس الأخلاقي للجنود الأربعة الذين يقررون سرقة الذهب...! جورج بوش الأب كان قد دعا العراقيين للتمرد على القيادة العراقية، وتذهب الرواية الرسمية بعد ذلك إلى أنه خذلهم بعدما تجاوبوا معه وقاموا بالتمرد فعلاً، مما عرضهم للتنكيل من قبل صدام حسين. وعلى خلفية الصراع في جنوب العراق بين "المتمردين" وبين الحرس الجمهوري، يدخل كلوني وفرقته ليسرقوا الذهب من التحصينات التي شيدها الجيش العراقي تحت الأرض. وكأنها سرقة مشروعة باعتبارها سرقة من سارق، أليس كذلك؟ والجيش العراقي لا يمانع لأن همه هو قمع التمرد فحسب. ولكن السارقين الأربعة يقعون هنا في مأزق أخلاقي ومعنوي كبير يمثل حجر الرحى الذي تقوم عليه كل البنية الدرامية للفيلم: هل يسرقون الذهب ويهربون، أم يتركون المدنيين والمتمردين العراقيين في المدينة التي دخلوها يتعرضون لبطش جنود صدام؟

وينحاز السارقون الأربعة لحسهم الأخلاقي طبعاً، ويساعدهم المتمردون على تهريب الذهب، ويساعدون المتمردين وعائلاتهم على الهرب للحدود الإيرانية، فيربح الجميع وينال ما يريده إلا صدام وجنوده، ويصور الجنود العراقيون كعساكر غير كفوئين، وهناك مشهد كامل يتعلق بجنود عراقيين فارين من القتال، إلا اثنين من بين عشرات، وخلال ذلك يُقتل من الأمريكيين الأربعة جندي ويصاب أخر في سياق القتال مع الحرس الجمهوري، ولكنهم يصورون كأي كاوبوي أمريكي في مواجهة شعوب العالم الثالث يقضي على جنود العدو بإشارة من أصبعه، فيقتلون عشرات بدون عناء، ويقوم أحد الجنود الأمريكيين بتدمير طائرة مروحية عراقية بإطلاق لعبة يد يحمِّلها بالمتفجرات، بينما يصور الجنود العراقيون كالعادة كمجرمين يرتكبون الفظائع بحق المدنيين العراقيين، وبحق أسير أمريكي يقع بين أيديهم، بينما يصفح الأسير الأمريكي عن الضابط العراقي الذي عذبه عندما يقع بين يديه...

ويتصل الرائد جورج كلوني بالقاعدة العسكرية ويطلب شاحنات، بصورة غير رسمية، عارضاً مئة ألف دولار على كل سائق شاحنة، ويعطي كل متمرد من الجنوب بقي معه لوحاً من الذهب، وفي النهاية، عندما يصل الرائد جورج كلوني وما تبقى من جنوده، مع المتمردين العراقيين وعائلاتهم إلى الحدود الإيرانية، يوقفهم الجيش الأمريكي، ويعتقلهم، فيعرض ما تبقى معه من الذهب الذي سرقه على الأمريكيين، في لفتة أخلاقية منقطعة النظير، لكي يسمحوا بمرور اللاجئين العراقيين إلى إيران!!

ويبرأ كلوني ومن معه من التهم الموجهة إليهم بفضل التقارير الإخبارية للمراسلة الإعلامية أدريانا كروز التي كان الرائد كلوني على علاقة معها منذ بداية الفيلم، ولعل ذلك يظهر أيضاً أن التأثيرات الإعلامية من الجيش تأتي بفضل مبادرات فردية أيضاً، وليس كسياسة منهجية، وهو ما ثبت عكسه أيضاً عندما انتشرت قصة "المراسلين المزروعين" مع القوات الأمريكية التي هاجمت العراق.

ليست هناك تعليقات: