الاثنين، تشرين الثاني ٢٦، ٢٠٠٧

فيلم 300: ملحمة تاريخية أم امتداد للصراع الأمريكي-الإيراني على العراق والإقليم؟


http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/film300.htm

د. إبراهيم علوش

مخرجه زاك سنايدر Zack Snyder يرفض أي إسقاطات معاصرة لفيلمه المعنون ببساطة بالرقم 300، تيمناً بالثلاثمئة جندي من مدينة إسبارطة الإغريقية الذين صمدوا حتى الرجل الأخير دفاعاً عن اليونان في معركة غير متكافئة مع مئات آلاف أو ملايين الجنود القادمين من الشرق لغزو أوروبا تحت قيادة الملك الفارسي زراسيس ابن داريوس عام 480 قبل الميلاد.

وقبيل إطلاق فيلم "300" رسمياً في 9/3/2007، قال المخرج سنايدر في مقابلة صحفية سبقت عرض فيلمه في "مهرجان برلين للأفلام"، رداً على تعليقٍ طُرح عليه بأن من المؤكد أن الجميع سوف يترجم الفيلم إلى سياسة معاصرة، بأنه "يدرك بأن الناس قد يقرأون الفيلم من خلال عدسة الأحداث الراهنة، ولكن لم يكن مقصوداً أن يكون هناك أي تشابه بين العالم المعاصر والفيلم"! (النيويورك تايمز 5/3/2007).

الفيلم الذي رشح لسبع جوائز عالمية لعام 2007، نال منها ثلاثة، أهمها جائزة أفضل مشهد قتالي، كلف خمساً وستين مليون دولار، وحصد أكثر من أربعمئة وخمسين مليون دولار في الأشهر الأربعة الأولى لإطلاقه، منها مئتين وعشرة ملايين في الولايات المتحدة والباقي خارجها. وهو من إنتاج شركة ورنر برذارذ Warner Brothers، إحدى أكبر شركات إنتاج وتوزيع الأفلام العالمية.

ومع أن حبكة الفيلم تعتمد على واقعة تاريخية مثبتة هي معركة "الأبواب الساخنة" Thermopylae في اليونان بين بضع آلاف من الإغريق بقيادة مدينتي إسبارطة وأثينا من جهة، وجحافل مئات آلاف القادمين لاجتياح أوروبا بقيادة فارسية، وهم ملايين الجنود حسب هيرودوتس المؤرح اليوناني، فإن الفيلم اعتمد في اختيار مشاهده ونوعية تصويرها على كتاب رسوم كاريكاتورية بعنوان "300" صدر عام 1998 حول نفس الموضوع للكاتب ورسام الكاريكاتور الأمريكي المعروف فرانك ميللر الذي الحق بفريق الفيلم كمستشار وكمخرج تنفيذي.

وقد تم تصوير الفيلم بعدسة بلوسكرين Blue Screen التي تتيح فصل الخلفية لإضافة مؤثرات عليها من خلال دمجها بمشاهد أخرى، كما تم إبطاء المشاهد في بعض اللقطات لتبدو تماماً مثل الرسوم الكاريكاتورية، خاصة في تصوير التحام الأبطال في المشاهد القتالية، وهو ما يضفي على الفيلم نكهة ما بعد حداثية، تجرد القتل والقتال عن سياقه حتى داخل الفيلم لتجعل منه سياقاً قائماً بذاته خارج أي واقع سوى الواقع الكرتوني الذي ينتج تمجيداً للولوغ في الدم.

وكان من الجوائز التي نالها الفيلم جائزة أفضل موسيقى مصاحبة، ومن الطريف أن موسيقى المشاهد القتالية في اللحظات التي ينتصر فيها الإغريق كانت من نفس نوعية موسيقى الهارد روك Hard Rock الصاخبة التي يشغلها الجنود الأمريكيون في دباباتهم وطائراتهم خلال المناورات والمعارك... وبالطبع، عندما يهزم الإغريق كانت الموسيقى دوماً حزينة.

ومع أن فكرة الفيلم عمرها سنوات، فإن التصوير تم على عجل في ستديوهات أيس ستورم في مونتريال في كندا خلال شهرين فقط، وقد بدأ التصوير في 17/10/2005.

وهذا التاريخ مهم. ففي نفس الشهر، والشهر الذي سبقه، كان الصراع على النفوذ في العراق بين الولايات المتحدة وإيران قد تحول إلى صراع مفتوح. وقد نقل موقع مفكرة الإسلام في 7/10/2005 عن مراسله في البصرة أن القوات البريطانية كانت قد بدأت تشن حملة اعتقالات ضد بعض ضباط المخابرات والشرطة العراقية بشبهة ارتباطهم بإيران، وفي 16/10/2005 نشرت وسائل إعلام مختلفة اتهام إيران لبريطانيا بأنها كانت متورطة بتدبير تفجيرات بالقنابل في مدينة الأحواز العربية المحتلة. وقد ترافق ذلك مع تصاعد الاشتباكات بين الأمريكيين وجيش المهدي الخ... وفي نفس الشهرين، حصلت طهران على زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والتقنية من روسيا.

إذن لدينا الآن حدثٌ تاريخي (معركة "الأبواب الساخنة") عمره آلاف الأعوام، وفكرة فيلم بقيت طي الأدراج سنوات، ليتم فجأة الإسراع بتنفيذها خلال شهرين في سياق توقيت سياسي محدد هو تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، حول الكثير من الملفات، أهمها ملف العراق.

ونبدأ بمشاهدة الفيلم ليطل علينا صوت راوي يسرد أحداثه. ومنذ الدقائق الأولى تطرح القضية التي يعالجها الفيلم باعتبارها معركة أوروبا بقيادة اليونان من جهة وأمم آسيا من بقيادة فارس جهة أخرى، ويشير الراوي بوضوح بأن المعركة في الواقع هي معركة بين العقل والعدالة والحرية التي تمثلها اليونان، والعبودية والظلامية والغيبيات التي تمثلها فارس، وهكذا يبدأ التحريض السافر على الحرب، حيث أن ذلك هو دوره بالضبط في الفيلم كأحد الجنود العائدين من الجبهة.

ومع أن اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، عند وقوع معركة "الأبواب الساخنة"، كان نظامها الاجتماعي يقوم على الرق ونمط الإنتاج العبودي، فإن آسيا وأممها هي التي تصور، من خلال مشاهد الجنود الذين يساقون سوقاً تحت وقع السياط إلى القتال، بأنها قادمة لتحل العبودية محل حرية الرجال الأحرار. والصراع هو صراع حضارات بدون أدنى مواربة، وهو صراع لا مفر من خوضه دفاعاً عن الحرية، لأن أمم الشرق الهمجية قادمة لاجتثاث الحضارة، وفي الفيلم، الشرق هو رجال معممون وملثمون، وهو فرس وعرب ومنغوليون وصينيون وهنود في خدمة المشروع الفارسي، وإلا، فإن الخيار الأخر، لمن لا يريد أن يكون كأنصاف البشر أنصاف الوحوش الشرقيين، لمن فاتته الرسالة، هو دعم الغرب وحربه دفاعاً عن الحضارة البشرية!! فإما المشروع الفارسي وإما المشروع الغربي... وعلى أمم الأرض أن تختار معسكرها في هذا الصراع. والمستهدف من الرسالة ليس المشاهد الأمريكي وحده، بل المشاهد العالمي، وحتى المشاهد العربي... الأول لتأييد الحرب، والثاني لتأييد أمريكا.

وفي الثلث الأول من الفيلم، تتجلى الحبكة الدرامية وكأنها كتبت في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. ولا يعود الفيلم مجرد تحريض مباشر وسطور مقتبسة بالكامل من الخطاب السياسي للمحافظين الجدد في موضوعات "الحرب على الإرهاب" و"صراع الحضارات"، بل تصبح كل عقدة الفيلم مبنية على الصراع بين البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي الذي يضع القوانين التي تعيق التدخل العسكري الأمريكي في الخارج.

فمع تقدم جيوش زراسيس الفارسي، يدرك ملك إسبارطة ليونايدس بأن عليه أن يجرد جيشاً لمواجهته، ولكنه يواجه بمجلس الشيوخ الإسبارطي الذي لم يقر هذه الخطوة لإرسال قوات خارج حدود المدينة. وعبثاً يحاول نيل رضا الكهنة الذين يسميهم الفيلم ephors ، الذين يصورون كثلة من الفاسدين المهرطقين الخونة، ولكنهم يشهرون في وجهه قانوناً يمنع النشاط العسكري خلال فترة الكارنيا أو الاحتفالات الأولمبية (ما يعادل الأشهر الحرم عند الإغريق). فيذهب ليونايدس ملك إسبارطة شاكياً لزوجته الملكة غورجو (الممثلة لينا هيدي): "ماذا أفعل حين تجبرني نفس القوانين التي أقسمت على حمايتها أن لا أفعل شيئاً؟!"، فترد غورجو: "لا تفكر ماذا تفعل كملك أو كمواطن أو كزوج أو كأب... بل فكر ماذا تفعل كرجل حر"، أي: لا تهتم بالقوانين!

وهكذا، يجرد ليونايدس قوة خاصة من ثلاثمئة من حرسه الملكي ويسير بهم عندما يعترضه بعض أعضاء مجلس الشيوخ ليسألوه عما يفعله، فيصر أنه ذاهب في مسيرة خاصة مع حرسه الشخصي، ويصور تجاوز قانون مجلس الشيوخ كخدمة للوطن طبعاً، وهكذا يذهب ليونايدس ليخوض معركة "الأبواب الساخنة" حتى الموت. وقبل الذهاب، تقول له زوجته، التي تمثل في الفيلم عدة أدوار عملياً تتمحور حول صلابة الجبهة الداخلية ودعمها للحرب الخارجية بالرغم من معارضة مجلس الشيوخ: "عد بدرعك أو عليه!".

ويبدو أن هذه المحادثة بالذات غير دقيقة تماماً في الفيلم إذا قارناها بالمراجع التاريخية. فالمؤرخ بلوتارك في كتابه "أقوال النساء الإسبارطيات" يذكر بأن غورجو شجعت ليونايدس ثم سألته ماذا تفعل بعدما يذهب، فأجابها: :تزوجي رجلاً جيداً وأنجبي أطفالاً جيدين!!". ولكن إضافة مثل هذه الملاحظة التاريخية في الفيلم كان يمكن أن يحبط دعاة التعبئة للتدخل العسكري الخارجي، فحذفت.

وهناك شيء أخر ترك عمداً بشكل غير دقيق في الفيلم على ما يبدو هو طريقة إظهار الإيفورز، الephors ، كشريحة من الكهنة الغيبيين المرضى الفاسدين الحريصين على مصالحهم الخاصة على حساب الوطن. والحقيقة أن الإيفورز لم يكونوا كهنة أبداً، بل يقول هيرودوتس وبلوتارك، المؤرخان اليونانيان القديمان، أن الإيفورز ehpors كانوا مجلساً من خمس حكام ينتخبون مباشرة من الرجال الأحرار في إسبارطة كل عام، وأنهم كانوا يفرضون القانون على الجهاز التنفيذي، ويتولون المحاكم المدنية والضرائب والسياسة الخارجية وتدريب الفتيان، وقد شكلوا وزناً مقابلاً في الجهاز التنفيذي لملك إسبارطة.

كما يقول هيرودوتس أن الإسبارطيين الذاهبين للقتال عندما استشاروا الكهنة في معبد دلفي، وهم غير الإيفورز، فإن العرافة أجابتهم بما معناه: إما أن تسوى المدينة بالأرض على يد أولاد فارس، وإما أن تحزن اليونان بأسرها على فقدان ملك هو حفيد هرقل! وهي الإجابة البعيدة كل البعد عن ما جاء به الفيلم عن رفض العرافة للمواجهة العسكرية بذريعة حرمة شهر الاحتفال الأوليمبي. وقد تم إظهار معبد الإيفورز في الفيلم على شكل دائرة مضلعة بالأعمدة مثل الشكل الهندسي الذي تقف عليه قبة مبنى الكونغرس الأمريكي في واشنطن دي سي عاصمة الولايات المتحدة.

ومن المعروف أن خطاب المحافظين الجدد في الولايات المتحدة يصور أعضاء الكونغرس كجماعة من الفاسدين المرتبطين بمصالح خارجية أو أجندات خاصة، ويتبرم بوش الابن باستمرار، مثل أبيه من قبله، من القيود التي يفرضها عليه الكونغرس، ومن الضغوط التي يمارسها عليه للانسحاب من العراق، ولعدم دخول حرب أخرى ضد إيران وسوريا والسودان وغيرها. وهذا التناقض يبرز على السطح بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام الأمريكية... والفيلم برمته في النهاية عبارة عن تمجيد لتدخل عسكري لم يصرح به مجلس الشيوخ الإسبارطي.

ويحفل الفيلم بمواقف موجهة بشكل مباشر لعائلات الجنود الأمريكيين الذين يقتلون في حروب أمريكا الخارجية. فهذا أبو أحد الجنود القتلى يقدم كنموذج لموقف الأب الوطني الشجاع حقاً عندما يُقطع رأس ابنه في المعركة، فيلقي خطاباً كأنه رد على سيندي شيهان وغيرها من أهالي الجنود المقتولين في العراق، ويندفع لذبح جنود الأعداء في الميدان!

وتلك زوجة ليونايدس قائد إسبارطة العسكري تذهب لتلقي خطاباً عرمرماً في مجلس الشيوخ لإقناع الإسبارطيين بضرورة الدفاع عن الحرية والعقل والقانون وعدم التردد في إرسال المزيد من الجنود للجبهة الخارجية! وعندما تفهم من جندي عائد بقلادة زوجها أنه قضى في المعركة، تدمع وتبلع الغصة ولا تبكي ثم تلبس القلادة لابنها. أما ذاك جندي الذي فقد عيناً في القتال فيذهب ليحرض مواطنيه على الحرب... ولا ننسى أننا نتحدث هنا عن تمجيد حروب غزو خارجية في الواقع تصور في الفيلم وكأنها حروب دفاع عن حدود الوطن.

وأخيراً، يصور الفيلم إسبارطة وجنودها وكأنهم الأفضل والأنبل والأشجع بين كل القوى المقابلة للزحف الشرقي-الفارسي، تماماً مثل موقف الولايات المتحدة بين حلفائها، مما يدفع أولئك الحلفاء الضعفاء لقبول قيادتها طبعاً!

وعندما يقتل ليونايدس ملك إسبارطة، يركز المشهد الأخير على جثته وكأنها مصلوبة تحت السهام، في لفتة تحريض دينية لن تغيب عن الجمهور المسيحي المتدين في قواعد الحزب الجمهوري... مع العلم أن المصادر التاريخية تقول بأن ليونايدس لم يقتل بالسهام مع البقية الباقية في النهاية من القوة الإسبارطية بل بالقتال بالسيوف عند حائط ممر "الأبواب الساخنة" في الفصل ما قبل النهائي للمعركة.

وبالرغم من كل ذلك، يصر مخرج فيلم "300" زاك سنايدر بأن التشابه بين فيلمه "التاريخي" والعالم المعاصر جاء صدفةً ولم يكن مقصوداً أبداً!!!!!!!!!

ليست هناك تعليقات: