الاثنين، تشرين الثاني ٢٦، ٢٠٠٧

في الضرورة التاريخية لبرنامج العمل القومي

د. إبراهيم علوش

بحكم فشل المشروع القطري، سواء أخذ شكل نظام عربي أم شكل حركة تغيير ضمن حدود القطر، ما زالت تطفو عشرات، إن لم يكن مئات، المآزق والعقد المستعصية على سطح حياتنا العربية المعاصرة. فمن حيز الاقتصاد إلى حيز السياسة إلى حيز الثقافة، لا نبرح نتقلب بين أزمةٍ أو كارثة هنا ومعضلة هناك ربما يحتاج المرء لعشرات المجلدات لوصفها ببعض التفصيل، غير أنها، بالرغم من تنوعها، يمكن أن تختزل جميعها في النهاية إلى ثلاثة جذور أساسية هي: 1) التجزئة، 2) الاحتلال والاحتلال غير المباشر (التبعية)، 3) التخلف (بأشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية).

وتتشابك هذه الجذور الثلاثة وتنفذ من بعضها إلى بعض خلال المئة عام الأخيرة. مثلاً، لولا التخلف الذي أورثنا إياه العثمانيون لما أصبحنا لقمةً سائغة في فم الاحتلال، ولولا الاحتلال البريطاني والفرنسي لما نشأت حدود التجزئة كما في اتفاقية سايكس-بيكو مثلاً، ولولا التجزئة لما احتلت فلسطين، الخ...

وتستمر هذه الجذور الثلاثة في صناعة واقعنا العربي الحديث والمعاصر منذ عقودٍ طويلة في شبكة لا تنقطع من الأسباب والنتائج. مثلاً، تصعب التنمية الاقتصادية العربية في الأسواق الصغيرة المجزأة، وفي دول تابعة لا تملك قرارها السياسي، وهذا يعزز بدوره من حالة التخلف التي تبقي مستويات المعيشة منخفضة وتبقي البطالة والأمية ومشاكل السكن مستشرية، وهو ما يعزز التبعية للخارج بذريعة استجداء القروض والمساعدات، وعدم القدرة على خوض الحروب، وهذه التبعية تصبح مدخلاً للمزيد من التبعية وللتساهل مع الاحتلال المباشر في العراق أو فلسطين ومع التدخل الدولي، وتصبح عائقاً أمام قيام مشروع تنموي جدي كذاك الذي حاول النهوض به جمال عبد الناصر أو صدام حسين، والتساهل مع احتلال العراق مثلاً كان سيصبح مدخلاً للمزيد من التجزئة لولا المقاومة العراقية.

ولو تتبعنا مسارات الروابط الجدلية بين التجزئة والتبعية والتخلف في كل حالة لأمكننا تفسير أهم مشاكل الحياة العربية المعاصرة، دون أن يقلل ذلك من أهمية فهم القوانين الخاصة بكل مشكلة أو حالة. والتجزئة تعني الضعف وضياع الأمن القومي العربي، وهو ما يتخذ عدداً لا نهائياً من الأشكال، والاحتلال والتبعية تعنيان فقدان السيادة والأرض والموارد، والتخلف يعني انتهاك وهدر الإنسان الذي يصبح بسببها أعجز من أن يفهم واقعه وأن يواجهه كفرد وكجماعة.

ولأن مثلث التجزئة والاحتلال والتخلف هو أساس مأساة واقعنا العربي المعاصر، فإن أي برنامج جذري لتغيير واقعنا نحو الأفضل لا بد له أن يضع نصب عينيه مهمة القضاء على هذه الجذور الثلاثة، ولذلك لا بد له أن يكون بالضرورة برنامج: 1) وحدة في مواجهة التجزئة، أي بناء الدولة العربية الموحدة، و2) تحرير في مواجهة التبعية والاحتلال، ومنه إزالة القواعد العسكرية الأمريكية في الوطن العربي، وتحرير كل الأراضي العربية المحتلة من سبتة ومليلة إلى الأحواز، 3) النهضة في مواجهة التخلف، ومنه مشروع التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتحرير الإنسان من قيود الجهل والعوز والاستغلال والاضطهاد بكافة أشكاله.

بمعنى أخر، بما أن كل حماقات الواقع العربي المعاصر تتولد من رحم مثلث التجزئة والتبعية والتخلف، فإن البرنامج القادر على تغيير هذا الواقع ونسفه من الأساس لا بد أن يكون في النهاية برنامج عمل قومي، وهو برنامج قومي بتبنيه لمشروع وحدوي عربي، ومشروع تحرير عربي، ومشروع نهضة عربي، وهذه المشاريع هي ضرورات موضوعية تواجهنا بغض النظر عن قطرنا وانتمائنا السياسي أو العقائدي.

ولذلك يبقى هذا البرنامج برنامجاً قومياً من الناحية الموضوعية حتى لو تبنته قوىً غير قومية، ولو لم تسمه برنامجاً قومياً، فإنه يبقى برنامجاً قومياً في مضمونه لأنه يسعى لتحقيق وحدة وتحرير ونهضة للأمة. وسبق أن تبنى الحزب الشيوعي الفيتنامي مثلاً برنامجاً قومياً حينما جعل مشروعه الأساسي وحدة وتحرير وتنمية فيتنام، فكان بذلك يتبنى برنامجاً قومياً من الناحية الموضوعية.

من ناحية أخرى، يمكن أن نعتبر الفتح الإسلامي في مراحله الأولى برنامجاً لتحرير الأمة العربية من الفرس والروم، ولتوحيد الأمة العربية المبعثرة في دويلات ومحميات محتلة أو تابعة، وفي بناء الأساس المتين لدولة النهضة العربية، فكان بذلك برنامجاً قومياً عربياً من الناحية العملية.

باختصار، الأمة العربية تحتاج لبرنامج عمل قومي بالضرورة، ولو لم يقم عليه قوميون عرب. وتتضاعف أهمية هذا البرنامج عندما تواجه الأمة مشروعاً للتفكيك، فوق كل المشاكل المستعصية والأزمات المعقدة التي أنتجها النظام القطري.

ليست هناك تعليقات: