الأربعاء، حزيران ٢٠، ٢٠٠٧

في الردود المطلوبة على هزيمة 67 المستمرة

(نذكّر القرّاء بأن المدوّنة و لائحة القومي العربي لا تتفقان بالضرورة مع كل ما ينشر فيهما)

د. عبد الإله بلقزيز

لم تؤرق الوعي العربي هزيمة كما أرقته هزيمة يونيو/حزيران ،1967 ولا هزت يقينياته وحوّلته إلى وعي شقي مثلما فعلت فيه هزيمة يونيو. فلقد مرت على العرب أحايين من الدهر نُكبوا فيها بسقوط ديارهم في قبضة جحافل غزاة لم ينقطعوا عن الزحف والنهب والتدمير، وبسقوط ممالك ودول تباهوا بسلطانها الكبير في العالم، وبانكسار جيوش جرارة كانت ترتعد لها فرائص الأمم، وبانهيار حضارة هي أعظم ما تركوه للعالم، وبتجزئة أوطانهم إلى دويلات وأشباه دويلات أكبرها أصغر من حي من أحياء القاهرة مكانا أو سكانا، لكنهم ما فُتنوا في وجودهم قدر ما فتنوا فيه وهم يتلقون نتائج نكبة يونيو 67 آثاراً وجراحاً غائرة في النفس. أتتهم “على حين غرّة” سريعة مفاجئة وعاصفة كأنها اللعنة قد نزلت بهم من حيث لم يحتسبوا ولم يتحسبوا.
بدت الهزيمة وكأنها أشبه ما تكون بنهاية العالم بالنسبة إلى جيل سياسي وثقافي، وإلى قسم عريض من المجتمع تراءت له أحلام النهضة تتكسر تحت جنازير الدبابات “الإسرائيلية”. بعضه كابر في البداية، ثم لم تلبث أن أعيته المكابرة فانتقل إلى ضفة من السياسة والفكر أخرى تباعد بينه وبين الموقع الذي كان فيه عبدالناصر وبرنامجه وجيشه وطبقته الاجتماعية، آملاً في أن يهتدي إلى طريقة أخرى للرد على الهزيمة بعيداً عن برنامج “إزالة آثار العدوان”: وتلك كانت حال يسار تسمى جديداً تمييزاً للنفس عن يسار آخر عُدَّ تقليدياً وأوثوذوكسياً أو ستالينياً، فيما بقي بعض ثان معتكفاً في محراب الفكرة السياسية نفسها (الناصرية أو القومية)، غير آبه بما قيل من أن الهزيمة هزيمة فكرة (قومية) وطبقة اجتماعية (الطبقة الوسطى) ونظام سياسي (الناصري )أو مَنْ على شاكلته ليستأنف إيمانه بما آمن به من دون أن يعدم التحلي ببعض حسٍ نقدي في قراءته ما جرى في تلك الأيام الستة النكباء من تاريخنا: وتلك حال تيار قومي خرج سريعاً من المكابرة إلى الاعتراف بالهزيمة، وبهول وفداحة ما خلفته من دون أن يفقد الأمل في إطلاق رد استرتيجي عليها.
ما كان اليأس مُطْبقاً أثناء ما كانت الهزيمة تفعل فعلها في النفوس وتتفاعل نتائجها في السياسات غِبَّ وقعتها وإلى السنوات الأولى من السبعينات.
كان في وسع اليسار - محمولاً في ركاب ظفراويته الإيديولوجية - أن يَعِدَ الناس بما هو أكثر من مجرد الرد على الهزيمة: ببناء مجتمع عربي مثالي على الأرض وبإخراج الصهيونية والامبريالية من ديارنا متأبطة علاقاتها الإنتاجية معها. وكان في وسعه أن يرى في العمل الفدائي الفلسطيني جنين الثورة العربية الشاملة والرافعة التي ستقوم عليها حركة التحرر الوطني العربية في طور جديد (ثوري) منها، والأسلوب النضالي الجديد للتحرير الذي يضع أسلوب الحرب النظامية في متحف التاريخ. وكان في وسع القوميين أن يجدوا في برنامج عبدالناصر ل “إزالة آثار العدوان” وفي لاءات الخرطوم وحرب الاستنزاف وإعادة تأهيل الجيش وتشجيع العمل الفدائي، ثم حرب أكتوبر/ تشرين الاول 1973 والنصر النسبي فيها، شواهد على أن القوى التي أطلقت مشروع النهضة العربية الثانية، في النصف الثاني من القرن العشرين، تستطيع أن تتجاوز لحظة الهزيمة لتسأنف مشروعها.
ما كان اليأس مُطبقاً في السنوات الأولى، ثم لم يلبث أن أصبح كذلك منذ منتصف السبعينات، منذ أن تبين لليسار أنه لم يعد يملك حتى الدفاع عن تنظيماته من الضربات الأمنية، فكيف بالدفاع عن أوطانه من الضربات الامبريالية والصهيونية، وأنه لم يعد قادراً على حماية منظماته من الانشقاق، فكيف بحماية مجتمعاته من الصراع الطبقي. ثم منذ أن اكتشف القوميون أن القوى التي قادت مشروع النهضة في الخمسينات والستينات خرجت من السلطة في السبعينات فورثتها نخب لم تعد تُسَلِّم بأيٍ مما كان في حكم الثوابت القومية لدى الأولى: في السياسة والاقتصاد والأمن القومي والصراع العربي- الصهيوني. ومن حينه، دخل خطاب التقدميين العرب - يساريين وقوميين ووطنيين - حقبة من النَّدْب واللطم لم يخرج منها حتى الآن، بل هي زادت حدة واستفحالاً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتدمير العراق واحتلاله.
كان مشهد القتامة هذا كافيا كي يُجَهّزَ النفوس بما يفيض عن “حاجتها” من اليأس: اليأس من محو آثار هزيمة يونيو التي لاحقت أجيالاً من الأمة كالعار، وأورثت في أعماقها جراحات لا تقبل الاندمال، واليأس من كفّ حالة التردي المتمادية منذ منتصف سعبينات القرن العشرين والتي تبدو أمامها هزيمة 67 تفصيلاً سياسياً يهون خطبه! شيئاً فشيئاً، ومع انهمار وقائع التفتت والاهتراء في النسيج الداخلي - المجتمعي والسياسي - اكتشفنا أن الهزيمة الكبرى لم تكن في 5 يونيو ،1967 وإنما بعد هذا التاريخ: حين دمرنا العلاقات البينية العربية - العربية بسياسات الكيد المتبادل بين هذا النظام وذاك وبسياسات الاستقواء بالأجنبي لتصفية الخلافات بين بعض النظم الحاكمة، وحين خربنا الاقتصاد الوطني بالنهب والفساد وتفتيت ممتلكات الشعب والدولة إلى قوى طفيلية خرجت بدورها من رحم الفساد فسرقت الدولة والمال العام مرتين، وحين حولنا الحياة السياسية إلى جحيم لا يطاق بالاستبداد والقمع وكبت الحريات وامتهان كرامة الإنسان ومصادرة حقوقه، وحين مزقنا النسيج الاجتماعي بالفتن والحروب الأهلية التي تحولنا فيها من أمة وشعوب إلى ملل ونِحَل وطوائف ومذاهب وعشائر وبطون وأفخاذ، انهزمنا حين أسقطنا قضية فلسطين من حساباتنا وتركنا شعبها لقدره وحيداً في مواجهة القمع الصهيوني، وحين أسقطنا الأمن القومي فبحثنا عن أمن مستورد بالقواعد والأساطيل الأجنبية، وحين أسقطنا الاستقلال الوطني: وهو المكسب الوحيد الذي حققناه من أهدافنا النهضوية في القرن العشرين، هذه كانت هزيمتنا الكبرى التي أنجزناها بأنفسنا - حكاماً ومحكومين نظماً وشعوباً- ولم نَحْتج فيها إلى عدو خارجي.
إن الردّ الحقيقي على هزيمة 67 لا يكون إلا بالرد على هذه الهزائم الداخلية، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لقد أنجز العرب عبوراً عسكرياً ناجحاً في حرب اكتوبر 1973 ثأر لهم قليلاً من عار الهزيمة، لكن العبور الحقيقي الذي نحتاجه هو العبور إلى النظام الديمقراطي، والوحدة الوطنية، والتكامل الاقتصادي العربي، ووحدة الموقف السياسي العربي، والتنمية الإنتاجية الحقة، وصون الثوابت والحقوق الوطنية والعربية، ودعم كفاح الشعبي الفلسطيني من أجل نيل حقوقه الوطنية، دون هذا العبور سننكفئ أكثر فأكثر، وتهترئ أوضاعنا أكثر فأكثر، ولن تفيدنا أحوالنا التراجيدية إلا في إنتاج بكائيات سياسية وشعرية جديدة وممارسة طقوس لطم وندب لا تنتهي

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الكاتب يقول أننا دمرنا العلاقات البينيّة العربيّة-العربيّة و قمنا بالاستقواء بالاجنبي كأن الشعوب هي نفسها الانظمة، و كأن النظام القطري له نتيجة منطقيّة غير تلك.

ثم هو يخطو باتّجاه خطير و هو الدعوة لتحقيق "الديمقراطيّة" قبل الوحدة، هكذا و بدون توضيح، و نحن نعرف ايّة متاهات توصلنا تلك الدعوات.

بشكل عام، المقال يعاني من مشكلة ان القارىء لا يعرف اذا كان الخطاب و اللوم موجّها للأنظمة أم للشعوب أم
للأحزاب، و هذا الخلط خطير برأيي.

و أنا لا أرى جدوى مخاطبة الانظمة بشكل عام.

حازم البقاعين