الخميس، حزيران ١٤، ٢٠٠٧

في الفرق بين المشروع الطائفي والمشروع القومي

أعضاء لائحة القومي العربي الكرام

أتشرف بالانتماء لهذه اللائحة التي يتمتع أعضاؤها بالنضج والمسؤولية الكافيين للترفع عن الهجمات الشخصية خلال الحوار حيث أن احد أغراض وجود اللائحة نفسها هو العمل على بلورة مواقف مشتركة من خلال حوار جدي ومثمر، وبالتأكيد لا يمكن تحقيق ذلك إذا جرى تبطين الرسائل بإساءات شخصية موجهة لمن يحملون رأياً مخالفاً. فالإساءة غير مبررة إلا لمن ينتهكون الثوابت.

بالنسبة للنقاش الدائر حول حزب الله وما إذا كان حزباً طائفياً أم لا، والنقاش الدائر حول أحداث مخيم نهر البارد، أود لفت النظر للمقالة أدناه التي تحمل عنوان "تعساً لكم من قيادات بائسة" التي أرسلها عضو اللائحة ماهر مخلوف مشكوراً. وأهمية هذه المادة للدكتور أكرم حجازي أنها تمثل محاولة جادة لفهم ظاهرة فتح الإسلام، ولتحديد موقف مبدئي من العدوان على مخيم نهر البارد. وليس بالضرورة أن يوافق المرء مع كل حرف ورد فيها، ولكن لا بد من أخذ المعلومات الواردة فيها بجدية، وهي تضيف جديداً بأية حال. ولكن الأهم من المعلومات والتحليل في المقالة، "نفس" تلك المقالة وروحها المعبران عن موقف الشارع برأيي المتواضع على الأقل فلسطينياً.

أولاً، فتح الإسلام ليست كياناً غريباً نزل من المريخ، بل تمثل حالة طبيعية ضمن الجسم الفلسطيني المعارض. وهي تتألف أساساً من الفلسطينيين...

ثانياً، فتح الإسلام ليست عصابة، وبالنسبة لتهمة السطو المسلح على مصرف، لاحظ إشارة الكاتب أن عناصر فتح الإسلام لم يأخذوا أكثر من رواتبهم المستحقة من المصرف الذي يفترض أنهم سطوا عليه.

ثالثاً، فتح الإسلام ولدت من رحم فتح الإنتفاضة، وهذه الجزئية على الأقل ثابتة مئة بالمئة، والمادة أدناه تقدم معلومات جديدة تؤكد أن فتح الإسلام رفضت الإنجرار وراء جماعة الحريري وتسليم لبنان لأمريكا، بالرغم من أن الطرفين حاولا الاستفادة من بعضهما خلال مرحلة ما، دون أن تفقد فتح الإسلام بوصلتها السياسية.

رابعاً، بالنسبة للطريقة التي بدأت فيها أحداث مخيم نهر البارد، يقول المقال أدناه أن قوى الأمن اللبنانية هي التي ارتكبت مجزرة بعناصر فتح الإسلام وبعناصر الجيش اللبناني على حدٍ سواء، وتتضارب الروايات هنا، فهناك رواية وزير الإعلام اللبناني غازي العريضي الذي يمثل قوى 14 آذار والتي تقول أن فتح الإسلام "غدرت" بالجيش، وهناك رواية فتح الإسلام التي تقول أن الجيش هاجمها بدون مبرر، والآن توجد هذه الرواية الجديدة، وليس من الحكمة أن نتبنى رواية قوى 14 آذار على الأقل صاحبة المصلحة بتبرير الهجمات على المخيم، ونزع سلاحه وسلاح المقاومة اللبنانية.

خامساً، يدين المقال العدوان الإجرامي على مخيم نهر البارد، ويدين القوى الفلسطينية التي تغطي هذا العدوان بمواقفها المتخاذلة والمتواطئة. ولاحظوا بالذات ما يقوله كاتب المقالة في نهايتها على هذا الصعيد، والمرارة التي يعبر عنها هنا، والتي تمثل على الأرجح موقف قطاعٍ عريضٍ من الناس.

فالطبيعي أن ندين هجوم قوة عسكرية عربية على منطقة مدنية عربية، مثلاً، عندما هوجمت معان في جنوب الأردن وتم التنكيل بها بذريعة وجود قوى أصولية هناك (أبو سياف وغيره) كان موقف كل القوى والشخصيات الشريفة إدانة ذلك العدوان. وليس منطقياً أن يبرر أحد الهجوم الوحشي على المدنيين في المخيم بذريعة وجود قوى أصولية أو سلفية جهادية فيه، فهذا ببساطة موقف لا يمكن تبريره، ولا يفهم الهجوم على المدنيين بذريعة وجود "مخربين" إلا بأنه عقاب جماعي، ومن يريد أن يبرر مثل هذا الأمر، لن يجد ما يقوله عندما يستخدم الأمريكيون واليهود نفس الذريعة لقتل العراقيين أو الفلسطينيين. واعتقد أن معظمنا يجمع على هذه النقطة على الأقل بغض النظر عن موقفه من فتح الإسلام نفسها.

الآن نأتي للقضية الخلافية وهي الموقف من حزب الله. على أي أساس يعارض حزب الله فتح الإسلام؟ وعلى أي أساس وافق حزب الله، ولو على مضض، على مهاجمة الجيش اللبناني لمخيم نهر البارد؟

فتح الإسلام موقفها واضح من الأمريكان واليهود. وشاكر العبسي كان يدرب المتطوعين ويرسلهم للقتال في العراق. وليكن واضحاً أنه لو كان مستعداً للتفاهم مع الحريري لما تعرض لمثل هذا الهجوم لشطبه. على العكس، نرى الولايات المتحدة وأذنابها ترسل العتاد وتقدم التأييد السياسي لضرب فتح الإسلام. إذن، الأساس الوحيد للعداء بين حزب الله وفتح الإسلام هو الأساس الطائفي، خاصة أن فتح الإسلام اعتبرت نفسها أيضاً قوة سنية.

طبعاً حزب الله يدرك بأن الهجوم على المخيم يمثل سابقة قد تجري عليه أيضاً من أجل محاولة نزع سلاحه، ولكن فتح الإسلام تُضرب من خارج سياق المعادلة اللبنانية نفسها، بالنسبة لحزب الله كجزء من الصراع الطائفي السني-الشيعي على مستوى الإقليم، بالتحديد، بين السلفية الجهادية بفصائلها المختلفة، وبين الجماعات المرتبطة بإيران.

ولا بد من عودة سريعة هنا للتذكر بأن الحرب اللبنانية عندما اشتعلت شرارتها في 13 نيسان 1975 على يد قوى طائفية مارونية ممثلة بحزب الكتائب والوطنيين الأحرار وحراس الأرز كانت تقابلها قوى غير طائفية في الجهة الأخرى تتألف من الوطنيين والقوميين والشيوعيين والبعثيين وغيرهم، وكان المسلم والمسيحي والشيعي والسني والدرزي يقاتلون جنباً إلى جنب في مواجهة المشروع الطائفي الذي كانوا يسمونه مشروعاً إنعزالياً. ثم جاءت الثورة الخمينية، وبدأ الغول الطائفي يصحو من سباته العميق، وبدأ الاصطفاف يتحول في لبنان (وغيره) من طائفي مقابل وطني وتقدمي إلى طائفي مسيحي ماروني مقابل طائفي إسلامي في نفس ذلك الجزء من الشارع اللبناني الذي كان وطنياً ويسارياً في السابق. وبدأت تضمر القوى الوطنية واليسارية ويضمر دورها ووزنها لمصلحة قوى طائفية مختلفة، وكان هذا يحدث بالضبط بفعل تأثير القوة التي كانوا الوطنيون واليساريون يهللون لها: الثورة الخمينية. وما حدث في لبنان كان يحدث على نطاقٍ أوسع في الإقليم بأسره...

الجديد كان أن التحريض الطائفي حتى الثورة الخمينية كان حكراً على المعسكر الموالي لأمريكا وبريطانيا في الحرب الباردة. كان النظامان السعودي والأردني يروجان على مدى عقود للطائفية ولكل ما يمكن أن يحتوي الموجة الناصرية والبعثية واليسارية وكان ذلك جزءاً من استراتيجية امريكا وحلف الناتو في الحرب الباردة لاحتواء الشيوعية وحركات التحرر الوطني. وبالتالي، كان التحريض الطائفي حتى ذلك الوقت ينظر إليه باعتباره منطقاً مشبوهاً أو عميلاً للغرب. ولكن بعد الثورة الخمينية تم اختراق الشارع والعقل الجمعي العربي بالتحريض الطائفي من داخله. صار الاصطفاف طائفياً في الشارع، بعد أن كان وطنياً ما فوق طائفي. وصار من الممكن في أذهان الناس أن يكون المرء وطنياً وطائفياً في آنٍ معاً.

وعملياً، في مثل هذا الجو، لم يعد من الممكن أن يكون هناك مشروع يتجاوز الطائفة أو العشيرة أو المنطقة أو الإقليم في أحسن الأحوال. طبعاً هزيمة ال67 شكلت ضربة حقيقة للتوجه القومي، مع أنها كانت هزيمة الدولة القطرية لا هزيمة النهج القومي كما يقول عصمت سيف الدولة. فالمشروع الخميني أتى في وقت ملائم جماهيرياً أيضاً، بينما كان النظام الرسمي العربي يعيش حالة من العقم الشديد وانعدام الوزن. والثورة الفلسطينية المعاصرة شكلت في النهاية تخلياً عن النهج القومي لمصلحة توجه قطري لا يمكن إلا أن ينتج مزيداً من التفكك الفئوي (ها نحن نرى بعض نتائجه في غزة). والنقطة هي أن جغرافيا الطوائف والعشائر والمناطق ربما تنتج قوى متعارضة موضوعياً على الأرض مع المشروع الأمريكي-الصهيوني، ولكن أفقها لا يمكن أن يتجاوز، بسبب طائفيتها بالذات، أكثر من خط دفاع موضعي، أي أن الطوائف والعشائر والمناطق يمكن أن تشكل خطاً دفاعياً هنا أو هناك، ولكنها لا يمكن أن تكون مشروعاً قومياً نهضوياً.

وعندما تتعارض الطوائف والعشائر والمناطق، بصفتها ما دون الوطنية هذه، مع المشروع الأمريكي-الصهيوني، فإننا يجب بالضرورة أن ندعمها بكل قوة، خاصة في ظل غياب مشروع قومي نهضوي. ولكن لا يجوز أن نسقط حلمنا القومي عليها، فهي عاجزة عن أن تكونه، وهي تمثل في جوهرها حالة ردة عن الحلم القومي، حتى لو مثلته مرحلياً أو موضعياً في هذا المكان أو ذاك، ربما بالرغم منها.

يعني باختصار، لا يجوز أن نطلب من هذه القوى أن تكون ما لا تستطيعه، ولكن لا يجوز أيضاً أن نقدم لها دعماً غير محدود لما تمثله، حتى لو قدمنا لها دعماً غير محدود في معركتها المباشرة مع الطرف الأمريكي-الصهيوني في المكان والزمان الذي تصطدم معه فيهما فقط، مع معرفتنا الكاملة أنها ربما تتقاطع معه في حالات أخرى.

وهذا ينطبق بالمناسبة لا على نصرالله فحسب، بل على بن لادن أيضاً، فكلاهما يمثل مشروعاً طائفياً في النهاية، وبالرغم من ذلك، يجب أن لا نتردد بتقديم الدعم غير المحدود لهما عندما وحيث يصطدمان بالطرف الأمريكي-الصهيوني، بدون تبني مشروعهما العقائدي الذي يبقى مشروع إخضاع الأمة لرؤية طائفية ضيقة، ولو اختلفت الوسائل.

وحتى نتمكن من إنتاج المشروع النهضوي التحرري الوحدوي يجب أن نتمسك بكل نقطة مقاومة وممانعة حيثما وجدت، ولا نطلب من نصرالله أن يكون عبد الناصر، ولا نطلب من بن لادن أن يتبنى موقفاً قومياً متنوراً، فلو فعلا لا يبقيان نصرالله أو بن لادن، ولكن هذا لا يعني أن ننسى الفرق الرهيب بين خط دفاع أنتجته الظروف، وبين مشروع قومي تحرري نهضوي.

إذن كما قال زياد الجشي في رسالته على اللائحة حول هذا الموضوع (بالإنكليزية) ندعم نصرالله في لبنان وبحدود دوره في مواجهة العدو الصهيوني وصهينة لبنان، ولكن لا ننسى موقفه المعيب في العراق، وارتباطه العضوي بإيران، والتزامه بدور طائفي فحسب.

وحزب الله لا ينكر ذلك على كل حال، يعني هذه ليست تهمة، بل واقع موضوعي. حزب الله يعبر عن طائفة، حتى لو اختلف عن حركة أمل التي تعبر عن طائفة أيضاً، بسوية أخلاقية وسياسية وميدانية أدنى بكثير. ونصرالله يمثل طائفة، وهو لا يخفي ذلك، وحزب الله قوة طائفية، حتى لو وظف وزنه وقوته في سياق وطني بحدود الصراع مع العدو الصهيوني في لبنان. وكقوة طائفية، يبقى حزب الله محدوداً بالاعتبارات الطائفية لأنه بنى نفسه على هذا الأساس. تماماً كما يبقى أي حزب قومي محدوداً بالاعتبارات القومية لأنه بنى نفسه على ذلك الأساس. والمقياس يبقى دوماً مصلجة الأمة، فإذا قامت عشيرة أو طائفة أو منطقة بأية خطوة تخدم مصلحة الأمة يجب أن ندعمها دون أدنى تردد، ولكن شتان ما بين ذلك وما بين ما نحتاجه فعلاً كأمة على مستوى استراتيجي. نحن بحاجة لمشروع تاريخي حقيقي، وليس فقط لنظرية "شيء ما أفضل من لا شيء"، أو "خبزة حاف أحسن من أن نبقى بالجوع".

بالتأكيد أمتنا عرفت الطائفية والعشائرية والمناطقية والإقليمية طويلاً في تاريخها، ولكن ذلك كان يميز فترات الردة والهزيمة والتراجع والانتكاس، أما في مرحلة التقدم إلى الأمام، فإن مشروع الأمة كان دوماً هو المشروع القومي، فالإسلام مثلاً عندما أخرجنا من الجاهلية مثل مشروعاً وحدوياً نهضوياً تحررياً، وعندما انقسم الناس إلى شيع وطوائف عدنا بشكل أو بأخر إلى الجاهلية. فتاريخ الأمة العربية هو بشكل من الإشكال تاريخ الصراع بين المشروع القومي النهضوي التحرري أي قوى الوحدة والتوحيد من جهة، وقوى الطائفية والعشائرية الجاهلية أي قوى التفكيك والتشرذم من جهة أخرى. وكان التقدم والتخلف في مجتمعنا العربي يتوقف تاريخياً على ميزان القوى ما بين هاتين القوتين.

باختصار شديد، خلاصنا بالمشروع القومي، وخلاصنا بأيدينا، ونحن الذين ننجح أو نعجز عن إنتاجه، أما القوى الإقليمية (مثل الثورة الفلسطينية المعاصرة) أو الطائفية (مثل حزب الله والقاعدة) أو العشائرية فيمكن أن تحقق نجاحاً هنا أو هناك، وهو أمر لا يحق لأحد أن يقلل من شأنه أو أن يقصر في دعمه، ولكنها لا يمكن أن تنتج مشروع وحدة وتحرير ونهضة. فمثل هذا المشروع يحتاج إلى رافعة من جنسه، أوسع من الطوائف وأكبر من الأقاليم والمناطق، أي إلى رافعة قومية في طرحها الفكري وبنيتها التنظيمية وأدواتها السياسية، والأهم، قومية في مشروعها المبدئي، وليس فقط في دورها الموضعي حسب الظروف، فهل تكون المقاومة العراقية مثل تلك الرافعة!؟

أخوكم إبراهيم علوش


ليست هناك تعليقات: