الأربعاء، حزيران ٢٧، ٢٠٠٧

منطق التطبيع، وحقائق التاريخ

سوسن البرغوتي

في مرحلة توثيق سقوط بعض الرموز العرب في مجال الثقافة والسياسة، تبرز شبهات المسعى إلى التطبيع مع العدو، وفي الطريق إلى ذلك نسمع في كل يوم عن شعارات ومفردات لا تحمل غير تفسير واحد هو شعار مشبوه تحت مسمى الانفتاح الثقافي والسياسي والاجتماعي على الآخر دون أدنى اعتبار للقراءات التاريخية الثابتة والساطعة التي تضع ذلك الآخر في موقع العدو بامتياز، مبررات ليس من ورائها غير الانسلاخ عن الخط الوطني الواضح.
نجد كثيرون يؤيدون سياسة وتصريحات وممارسات جنبلاط أو خدّام أو دحلان أو الجعفري، سواء بحسن أو بسوء نيّة، لكنهم جميعاً يستخدمون تبريراً واحداً تحت شعار المحافظة على وحدة كيان البلد، ويبرؤون المشبوهين المسؤولين ، لتفتيت وتقسيم الوطن، وإشاعة الفتن للعبث بأمنه الوطني والقومي.
بينما الالتفاف حول قضايا وطنية على طريقة فصل الأدب وموت المؤلف ليبقى النص دون ملامح بتحديد مسار جديد غايته الانقضاض على الذاكرة القومية، وإلغاء النص المقاوم، من منطلق إضافة ثقافة مغايرة إلى نتاجاتنا الفكرية.

إن هذه الحالة الهلامية التي تعيشها بعض الأقلام العربية التسووية، تشير إلى ضياع الثوابت والمبادئ في مرحلة جديدة لعصر انحطاط عربي جديد.
إذ كيف نستطيع أن نفصل بين مرحلتين.! نمتدح نتاجات سابقة، ثم نجبّ ما جاء فيها وما دعا إليها الشاعر محمود درويش من واقع ما طرأ على قصيدته، وخروجه عن خط المقاومة بالكلمة.!

عندما رفض ماركيز الجائزة العالمية "نوبل" الأدبية من أجل سلام العالم، وتكفيرا على اختراع نوبل المدمّر، لم يتناقض مع نصوصه، وأعلن أنه يرفض الجائزة كون "مناحيم بيغن" القاتل حصل عليها، وما دام هناك احتلال لفلسطين، فإن هذه الجوائز بتسلّط القطب الأقوى على مقدّراتها تحمل تشجيعاً لبيع الذمم والضمير الثقافي.

ثبات الأديب وعدم تناقضه مع فكره هو ما نحاول متابعته، لكن تحويل الهاجس إلى وظيفة خدمة العولمة في هذه المرحلة، يجعل المهرولين نحو التطبيع يسقطون بكشف أقنعة توظيف المحاباة السلطوية والكلمة إلى مصالح شخصية بحتة، وأنّى تميل بهم الريح يتهاوون في ذاكرة جماهيرهم.

دعا غاندي إلى الانفتاح على العالم بمقولته الشهيرة "أفتح نوافذي على ثقافات العالم بأكملها، على أن لا تنتزعني من جذوري"، وهذا لا يتناقض مع مبادئه ونضاله من أجل البشرية، لكن أن يدعو درويش إلى مصافحة العدو لنشرب فنجان مرارتهم ونذعن بالركوع تحت أقدامهم، فهذا يتناقض تماما مع الرغبة في همّة شامخة، وتصميم على المضي في طريق المقاومة حتى الشهادة..

تصادمت المبادئ مع الرغبة الملحة في الانجراف نحو تسوية مهينة، وبالتغاضي عن تاريخ قلمه وتضحيات شعبه في ترويجه لـ "أنسنة العدو"، وهجر مشروع الإنسان الفلسطيني وتحريره من ظلم وقع عليه وعلى بقعة جغرافية عربية، برفع شعاراته الجديدة، وهذا ما يدين نصوصه وأدبه برمته أكثر من دفاعه عن الإنسانية المغلفة بظواهر معطيات المرحلة والدعوة من طرف الضحية إلى التسامح مع الجلاد!.

تسويق الإصدارات الأدبية لا يعني مطلقاً ما ذهب إليه الشاعر العظيم من استباحة الحق المشروع وأنسنة القضية الفلسطينية، بينما جاري العمل على اقتطاع أشجار الزيتون، وقتل المدنيين في مدن فلسطين المحتلة وقراها وريفها ومخيماتها ما زالت سائدة على قدم وساق تجاهر بعداء جوهر الإنسانية. وانتهاك مستمر للمقدسات الإسلامية، وسرقة التراث الفلسطيني وضمّه إلى محافلهم الثقافية فإن الشاعر درويش غير معنيّ به!.

على القارئ العربي أن يرصد هذه السقطات في مستنقع التهاوي، وأن يتبنى قضية منطقية وهي أعظم وأدهى على مستقبل وطننا العربي والنيل منه، فالتجارة القلمية لا تقل خطورة عن كشف أقنعة الساسة المنتفعين.

بالعودة إلى نتاج الشاعر محمود درويش كونه مبدعاً ومتألقاً، وإن قدم في الجدارية تجربة شعرية في السرد النثري واختراق الغيبيات بفرشاة أسنان وحقيبة سفر إلى عالم آخر."ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟" وحسبه أنه ذكر في حالة حصار "قد متٌّ قبل الآن.". أحبّ الحياة غداً، متوجهاً إلى قاتله "لو تأملت وجه الضحية"، ليتناقض مرة أخرى ويُخيل له في هلوسات محمومة أن الجندي المدجج بالسلاح طفل يبكي أطلال بيته وسكنه، يحمل زنبقة بيضاء!.

"هل يُلدغ المؤمن الواعي من جحر مرتين؟!"، الأولى بتبني الفكر السلطوي، وأخيراً بإشهار استعطاف العدو بصك غفران عن التسجيل سابقاً بأنه عربي..؟

اختلط الأمر على شاعرنا وربما يعيش مرحلة فقدان توازن في عرض السلام كمطلب إنساني يقوم على مبدأ العدل لا البحث مجددا عن متاهة الفكر العربي المتطبع. غير التيه في إدراك الشرائع السماوية ووجوب الإيمان بها، وبين تصديق تحريف الدين اليهودي للتوراة.
وقع محمود درويش صريع ثقافة دينية هشة، فالصراع التاريخي لم يبدأ في التاريخ المعاصر، إنما منذ بداية التاريخ الإنساني والسبي البابلي الأول والثاني، والعصر التبعي لدولة الفرس من قبيلة المناذرة، إلى تعذيب السيد المسيح نبي التسامح والمحبة، إلى نقد عهودهم مع الرسول، ومن ثم وفي القرن الخامس عشر تحديداً ضم العهد الجديد إلى القديم لأطماع سياسية بحتة، وفي كل الأحوال فإنهم وأحبارهم يمثلون الشيطان على الأرض.

إن الردّة التي أصابت فكر درويش منسجمة تماما مع ردّة جنبلاط وخدّام خدَمة الصهيونية من العرب، كما أصابت ببلائها الشاعر مظفر النواب ليعلن انقلاباً جلياً في قناة الحرّة الفضائية، ويدعو إلى انتخابات عراقية في ظلّ الاحتلال. وفي الحالتين سقط الشاعران وبقيت نصوصهما شاهدة على انحرافهما في مسيرتهما الأدبية النضالية سابقة التألق. فالقدس عروس عروبتكم، وسجّل أنا عربي، ستبقى راسخة في ذاكرة الجيل المقاوم في وجه الهيمنة الاستعمارية، ويغادرنا الشاعران إلى وكر العصابات العربية المناهضة للمحبة وإشاعة سلام عادل أساسه احترام الآخر ورفض الذلّ والمهانة ولو كانت مقدّمة على طبق وشعار زائف اسمه "الإنسانية" على مذبح غسل المبادئ على الطريقة العولمية في أجواء ضبابية يرصده تسجيل حداثي لحماية حق المحتل بزرع الدمار وحصد الزنابق، وهو المعتدي والمغتصب.

إذا كانت سياسة بعضهم الدعوة إلى السلام والخروج من الضفة وغزة بناءً على إيمان حقيقي بضرورة التعايش السلمي، فليرحلوا إلى بلدانهم الأصلية، ولتعد فلسطين الكلّ لأهلها بتعدد مذاهبهم الدينية، فالدين ليس حكراً على هذا الكيان الاستيطاني، وما أقاموه تحت مسمى "دولة" هو كذب وافتراء لاهوتي ووهم متطرّف يقول كذباً بأن فلسطين أرض ميعادهم وتجمعهم.
فهل يحق للأمريكي المسلم مثلاً إنشاء دولة أمريكية في مكة على أساس الدين بغض النظر عن عروبة الوطن العربي..!؟ وهل المطلوب من مسيحيي الوطن العربي تأسيس دولة لهم في إيطاليا كونها مركز البابوية..!؟

لقد اختلط الحابل بالنابل والهدف منه إشعال فتيل التفرقة بين الأديان وهذا مسعى الحركة الصهيونية منذ البداية، لترسيخ فكرة دولتهم الصنيعة وشرعنة الاحتلال.
لقد انقلب الحسّون، وصار ينعق كالغراب في زمن جنون البقر والطيور والبشر...

ليست هناك تعليقات: