الاثنين، آب ٢٠، ٢٠٠٧

في أفق الرؤية

بقلم:جعفر حسن

يتجاذب الشعر اليوم جدل عميق يدخله فضاء التحولات، فالعالم تتسارع أحداثه بقدر كبير من السرعة تفوق قدرة الكثيرين على التأقلم والمسايرة، ولعل السرعة الهائلة في التغيير التي تجتاح العالم الآن على مستويات عدة اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا تترك مجالا من الوقت للتأمل فيما يحدث حولنا، لم نعد ندرك ما يحدث أو ما نفعل، إننا مجبرون على الفعل قبل التفكير، انه رد الفعل المباشر للحفاظ على الوجود، إنها رياح العولمة السابغة الدروع.

لم تعد الأحداث الجسام التي تهب رياحها من كل صوب حاملة انهيارا شاملا للقيم الكلية، وتنصيبا مطلقا لقيم الفرد في مواجهة المجموع، وتسلع الأشياء المتسارع، وتحرك السوق الذي يحاول أن يمتص كل اثر من الوجود لتحويله إلى سلعة، حتى الشعرية التي باتت قيم السوق تمتص من روحها ما يمكن أن نسميه الشعرية الطارئة، فنرى إلى الإعلانات وهي تحمل بقرة تضحك، أو فراشة تحاول امتصاص رحيق زهرة عبر التلفاز، كل ذلك من قيم الشعرية التي تذهب إلى فضاء الصورة، كل ذلك التسلع لم يؤثر على الشعرية التي لم تتنازل عن فضاء الروح، فتركت خارج قيم السوق، ولم يعد لها مجال في عالم تتحكم فيه السلعة، فباتت الدواوين لا تسوق، بينما تشترى الرواية وتحول إلى أفلام تجارية ذات مردود.

ولعل ذلك هو ما ينعكس الآن في ما يمكن تسميته بصراعية الشعرية العربية في جدلها الكبير بين الأنا والنحن، ويبدو انه لا توجد منطقة في الثقافة العربية بعيدة عما يحدث، فنجد كثيرا من التجارب تتجه صوب اللغة التي تتغيى الجمالية في شكلها الخالص، وربما يكون ذلك تعبير عن انتصار للفرد أمام المجموع، ويبدو انه شكل من أشكال الهروب إلى الأمام، لعلها مع المحاولة أن تحث أطراف الحياة الاجتماعية على خلق فارق في اللغة، يمكن من خلاله أن يرتقي الكائن من حالة السلعة إلى حالة الإنسان (الفرد)، ولكنها تظل تشاكس في منطقة المعنى.

يتشكل الشاعر من خلال تملكه لتقاليد الشعرية العربية، تلك التي يمتصها عبر علاقة حميمة مع مدونته التراثية الهائلة التي استطال بها الزمن إلى ابعد من ألف وسبعمائة سنة وربما أكثر، ومن خلال انفتاحه على التجارب من خلال تملك لغة ثانية، أو قراءة المترجم إلى الثقافة العربية. ولكن في خضم ذلك ينتابه قلق مهلك للبحث عن التفرد، فطرق موضوعة مثل الحب، بات يتطلب جهدا إبداعيا، يطرح بين مطرقة الإضافة الجديدة، وسندان التميز الإبداعي، البحث عن الصوت الخاص، ضمن أسئلة الشعرية.

في التجارب الغضة هناك منطقة باتت تخبوا كالمضمون، وتحملها الرياح نحو الصورة الجمالية، التي تتقطع بها السبل في نهاية الشطرة، بالاشتغال على إجبار المفردة أن تتحمل أكثر من مجرد العلاقة بين الدال والمدلول، لتشكل سلسلة من الدوال التي لا تنتهي بذاتها، ولا تؤدي إلا دائرية لا تتشكل بنيتها، فلا تبرز الخاتمة باعتبارها كذلك، ولا تحس بنهاية القصيدة وهي تنموا، إنها تبحث عن كيف تترك أثرا في المتلقي، لكن الغاية غير مدركة من بنية القصيدة، يبدو أن الهروب من المعنى، محاولة للخلاص من إشكالية العلاقة بين الشكل والمضمون في الفن، وهو هروب من أسئلة الحياة ذاتها التي باتت تتحول بسرعة كبيرة، وبات من الصعب القبض عليها.

هل يكفي أن نصف ما يحدث! هل يكفي أن نقف أمام هذا الذي يحاول في أفق الشعرية العربية، هل هي استجابة لحالة لم تعد تتسع للشعر؟ فانكفأ الشعر على ذاته يعالج جراحاته، يحاول لملمة أسفاره سفرا سفرا، يحتشد من اجل انطلاقة جديدة في أفق لم يتملكه بعد، ألهذا نجد حضور الأمسيات الشعرية يقتصر على عدد قليل يتناقص، ولماذا يحتشد الجمهور لأسماء بعينها في المهرجانات، ما علاقة الشعر بالسياسة، هل الشاعر صوت للجماعة؟ أم هو صوت ذاته؟ كيف يعبر الشعر عن موقفه من الحياة وأسئلتها المتنوعة؟

هل يمكن لأطراف الإبداع أن تضع أمامها رؤية مشتركة كما كانت؟ بمعنى تملك فلسفة جمالية ما، تبرز بشكل تيار يحمل رؤية شاملة في الفن ذاته (مدرسة فنية)، هل ذلك ما نراه من تقليد لأفراد معينين يمكن اعتبارهم ممثلين عن تيار في الشعر؟ هل صار كل شاعر مدرسة في ذاته؟ هل يمكن أن يبقى الشاعر خارج السرب ليتفرد؟ أو أن يبقى داخله دون أن يفقد صوته؟ هل يمكن لنا أن نجد ما يعادل المسألة في جدل الفرد والجماعة؟ ما الذي سيبقى من جمالية الشكل، ما الذي سيبقى من المعنى في نزيف الوقت؟ هل معنى الحداثة أن تذهب إلى فردانية عميقة لا مرجيعية لها إلا ذاتها، أم انها فردانية تستولي عليها ايديولوجيا السلعة، فتتشظى كما تتشظى القصيدة ذاهبة في السديم؟

ليست هناك تعليقات: