السبت، آب ١١، ٢٠٠٧

الفلسطينيون وقلق اللجوء على لجوء

د. إبراهيم علوش

بين عشرات آلاف الفلسطينيين المشردين من مخيم نهر البارد في شمال لبنان وآلاف الفلسطينيين المنسيين على الجهة المصرية من معبر رفح ثمة خيوط وجدانية متينة باتت جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي العربي الفلسطيني وإحدى أهم اللبنات في تشكيل التوجهات السياسية والحزبية داخل فلسطين المحتلة وخارجها.

فمن ترحيل مئات آلاف الفلسطينيين من الكويت ببداية التسعينات، إلى نزوح مقاتلي فصائل المقاومة مع عائلاتهم عن بيروت في بداية الثمانينات، وتهجير وذبح أهل مخيم تل الزعتر وغيره من قبلها، إلى آلاف حالات المعاناة اليومية نتيجة مشاكل الإقامة والسفر وتأشيرات الدخول والخروج في أكثر من دولة عربية، أصبح قلق اللجوء على لجوء جزءاً لا يمكن إنكاره من البنية النفسية للفلسطينيين، بكل ما يمثله عبث المجهول وتكرار المأساة وانعدام الاستقرار وفقدان حق الإقامة من شعورٍ للمرء بأنه يمكن أن يقتلع في لحظة، أية لحظة، من المكان الذي ولد وترعرع ودرس وعمل فيه. وهي إحدى أهم الجدليات النفسية التي وظفتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لإقناع العرب الفلسطينيين تدريجياً بأن الحصول على "دولة فلسطينية ما" هو هدف "أكثر واقعيةً" بكثير من مشروع تحرير هو بالأساس مشروع عربي "تخلت عنه الدول العربية"! وكأن تحقيق أمان جمعي فلسطيني ممكن بدون تحرير!!

والحديث يدور هنا بالأخص عن اضطرار اللاجئين الفلسطينيين للجوء تكراراً من أراضٍ عربية لم يلجأوا أصلاً إليها إلا رغماً عنهم بعيد احتلال فلسطين عام 1948، أو بعيد حرب ال 1967، مع أننا يمكن أن نضيف هنا لجوء اللاجئين من الضفة وغزة مثلاً بسبب إجراءات صهيونية كالجدار المزدوج في الضفة أو بسبب الحصار والتضييق وإغلاق المعابر كما في غزة.

فالمهجرون من مخيم نهر البارد، كاللاجئين من غزة في العريش، هم لاجئون مرتين على الأقل، مرشحة دوماً للتزايد، والشعور الذي يتركه تزايد احتمال تكرار اللجوء، في كل الفلسطينيين، يمكن دوماً أن يوظف سياسياً بأحد اتجاهين: إما تزايد الرفض المبدئي للحدود بين الدول العربية وللسياسات الرسمية العربية وما تمثله من خضوع وإذعان، وإما تعميق النفس القطري أو الإقليمي الفلسطيني في مواجهة بقية العرب!

باختصار، مثل كل معاناة سياسية الجوهر، تدفع هذه المعاناة غير العادية الفلسطينيين منذ ما قبل عام 1948، كما تدفع العراقيين مؤخراً، لأن يصبحوا كأفراد أما ملائكة أو شياطين، أي يدفعهم غياب إمكانية العيش بشكل طبيعي ليصبحوا إما أشرف الثوار أو أحقر العملاء، وبتعبير أخر تدفعهم إما للخضوع للأمر الواقع ومحاولة إيجاد موطئ قدم فيه بشروطه الأمريكية-الصهيونية، كما انتهت حركة قيادة حركة فتح إلى شعار الدويلة الفلسطينية باعتبار السياسة "فن الممكن"، وإما الرفض الثوري للأمر الواقع وكل القائمين عليه من قوى هيمنة خارجية ونظام رسمي عربي باعتبار أن الثورة هي الممكن الوحيد.

ولعل أبرز الأمثلة على عمق حالة القلق من اللجوء هو مثال مخيم جنين في نيسان / إبريل 2002 وإصرار الأهالي فيه على البقاء بين الدمار والركام خلال القصف الوحشي الصهيوني على أن يلجأوا منه ليحدث لهم ما حدث للاجئين من قبلهم. فهنا تحول قلق اللجوء على لجوء إلى موقف ثوري أصلب، وإلى تمسك أقوى بالأرض.

سياسياً، من المهم التأكيد أن دعوة التماثل مع جنوب أفريقيا التي يطلقها البعض على أساس النضال السلمي لتحقيق مبدأ "دولة لكافة مواطنيها" لا تأخذ بعين الاعتبار، غير مسألة هوية الأرض باعتبار فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، حقيقة اللجوء، أي كون أكثر من نصف الشعب العربي الفلسطيني في حالة لجوء، وأغلبيته في الداخل والخارج في حالة قلق من اللجوء أو تكرار اللجوء.

والفلسطينيون الموجودون في مشارق الأرض ومغاربها لم يصل معظمهم هناك إلا بسبب حقيقة اللجوء الفلسطيني، وليس لممارسة السياحة والاستجمام. وهذه النقطة الأخيرة لا بد من ذكرها لأن أنصار التفريط بالثوابت وجماعة التنسيق الأمني والسياسي مع العدو الصهيوني كثيراً ما يستخدمون ذريعة: "أنتم بعيدون ولا تعرفون معاناة شعبنا!". والحقيقة هي أن معاناة شعبنا تتلخص باللجوء، الكائن والكامن، وسياسات التفريط والتخلي عن المقاومة تعمق مشكلة اللجوء وإمكانية تكراره بدلاً من أن تحلها، فلا عودة من دون تحرير، ولا تحرير بغير الكفاح المسلح والاستشهادي


ليست هناك تعليقات: