الاثنين، آب ١٣، ٢٠٠٧

سجالات حول العلمانية والدين

نشرت في صحيقة الغد الاردنيّة يوم السبت 11 / 8 / 2007

توفيق شومر

رئيس قسم العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة فيلادلفيا / الاردن


أثارني مقال الزميل بسام ناصر بعنوان "حقيقة موقف العلمانيين من الدين" (في الغد يوم الجمعة 13 تموز 2007) إلى إعادة فتح الحوار حول العلمانية والموقف من الدين أو بالأحرى حول القراءة السائدة للدين والموقف من العلمانية.

يمكن تلخيص الحجة التي يستخدمها المدافعون عن القراءة السائدة في الإسلام وموقفه من العلمانية في قولهم: "إذا كان علماء الأمة في السابق قد أجمعوا على شيء خطأ فإنه على حق لأنهم أجمعوا عليه، والأمر الخطأ هو الصواب لأنهم أجمعوا على أنه صواب". وإذا طبقنا هذا المنطق المتميز على العلم -على سبيل المثال- لتمكن البعض من القول بأن كل علماء الأمة والعالم أيدوا رؤية أرسطو لمكونات الكون (الماء والتراب والنار والهواء) ولمميزاتهم، وبالتالي فإن كل التطورات التي قدمت بعد ذلك لا بد أنها خاطئة لأنها تتعارض مع إجماع العلماء، يتضح مع هذا المثال ضعف الحجة المقدمة والتي يسوقها الكثيرون ضد التغيير.

التحولات العلمية والاجتماعية والتحولات في الرؤية لا يمكن أن تتم بدون التحول عما يعتقده الأقدمون وحتى لو كانوا من علماء الأمة. وتفسير الدين في ذلك ليس استثناء، فمع كل احترامنا وإجلالنا لعلماء الأمة إلا أنهم في نهاية الأمر بشر يفسرون النص بالاعتماد على معارفهم وحياتهم وما اختبروه في هذه الحياة. وبالتالي لا بد لنا أن نأخذ ما فسروه وما وصلوا إليه من إجماع انطلاقاً من رؤيتهم ومن علمهم ومن حياتهم، وبالتالي فإذا وصلنا إلى مرحلة تغيرت بها رؤيتنا وعلمنا وحياتنا عن رؤيتهم وعلمهم وحياتهم فمن الجدير بنا أن نفكر مرة أخرى فيما فكروا واجتهدوا به مشكورين عليه في كل مناحي الحياة، لنصل إلى اجتهادات جديدة تتناسب مع رؤيتنا وعلمنا وحياتنا.

في هذا نحن لا "نستورد" فكرا غربيا، بل نفكر في ما نحن عليه، ونعتمد على ما كان سائداً في الفكر العربي الإسلامي قبل سيطرة "الإجماع" على التفكير السائد في المجتمع العربي الإسلامي. فمن يطلع على الفكر العربي الإسلامي منذ بداية الدعوة وإلى القرن الخامس الهجري يجد أن "العلماء" والفقهاء لم يكونوا يجمعون على شيء وكان هناك خلاف شديد في تفسير حتى أكثر النصوص. ونجد أن مبشرين بالجنة كالخليفة عمر، لم يتوانوا عن تعطيل تطبيق حكم قرآني بيِّن وواضح في سبيل قضايا ترتبط بالوضع الاجتماعي للأمة (أقصد هنا الحادثة المعروفة عن تعطيل حد السرقة). ولا اعتقد أن أياً كان ولا حتى الأخ ناصر يمكنه أن يكفِّر هؤلاء العلماء والمبشرين بالجنة لأنهم لم يوافقوا حينها، وليس اليوم، على ما يتفق عليه "إجماع" العلماء الذي يستند إليه الأخ ناصر. فكيف بالحال لنا اليوم! أليس أولى لنا نحن من نمتلك هذا الانفجار المعرفي الذي نمتلكه اليوم أن نفكر في ما اتفق عليه في زمان آخر وظروف أخرى لنصل إلى تفسيرات جديدة لما جاء في محكم التنزيل؟

لنتذكر جميعاً أن النص القرآني جاء بلسان عربي قويم على أمة تتحدث العربية، لكنها كانت تعرف القليل القليل من العلم والمعرفة، ولو جاء القرآن بالحقائق العلمية التي نعرفها اليوم وقدّمها لهؤلاء القوم، وحتى لو كانت الرسالة بلغة عربية قويمة فإنهم سيخالون من يقدم الرسالة بأنه مخبول أو به مس.

وبالتالي، فالنص القرآني دفع، وبكل رسالة من رسائله، إلى العلم والمعرفة وإلى التفكير والتمحيص في العالم. ولا أدل من ذلك إلا بأول ما جاء من الرسالة بقوله عز وجل أقرأ"، أفلا نقرأ ما يحدث حولنا بعد هذا كله؟!

العلم الحديث يعلمنا أن الكلمات والعبارات يكون لها معنى مختلف في سياق معرفي واجتماعي مختلف، وحتى لو لم تختلف حرفية هذه الكلمات والعبارات، فإن كان هذا صحيحاً، أفلا يكون أحرى بنا أن نبحث في معاني الكلمات والعبارات التي تجعل من القرآن صالحاً لكل زمان ومكان بدلاً من أن نقول بأن تفسيرا معينا معتمدا على سياق معرفي واجتماعي معين كان سائداً قبل قرون، هو التفسير الصحيح والوحيد المقبول للكلمات والعبارات التي أطلقها الخالق كلي المعرفة كلي العلم، والذي بالضرورة يعرف ويعلم أن السياق المعرفي والاجتماعي للعلماء الأجلاء والذي يُعتمد عليهم في الإجماع ما هو إلا سياق محدود وقد تجاوزه التاريخ.

المسألة لا ترتبط بالعلمانية بقدر ما ترتبط باحترام العقل واحترام ما علمنا إياه القرآن الكريم، والذي يؤكد على التفكير في كل ما يحدث حولنا. والمحاولات المشكورة التي يقدمها الكثير من العلماء اليوم يجب أن تحترم وتناقش بكل جديه في إطار الاجتهاد للوصول إلى اتفاقات جديدة تتناسب مع احتياجات الواقع الاجتماعي المعاصرة وتتفق مع العلم والمعرفة والرؤية المعاصرة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر لنأخذ مسألة أن "للذكر مثل حظ الأنثيين" والتي يناقشها المقال، لماذا يريد الأخ ناصر أن نعامل هذه الآية على أنها "ثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وعليها إجماع علماء الأمة، وليست مما يحتمل الأخذ والرد"، فبالاعتماد على النص القرآني أيضاً نقول أننا سواسية كأسنان المشط، ولم يقل النص أن الرجال فقط سواسية والنساء أقل سواسية من الرجال، ولم يفرق النص بين الأنثى والذكر في أمور العبادات ولا بالأحكام والنصوص في ذلك كثيرة، وبالتالي فيمكن الاعتماد على هذه النصوص التي تساوي بين البشر دون تحديد جنسهم في القول بأن التفريق المحدد في قضايا الميراث إنما جاء مخاطباً أوضاع المجتمع العربي في الجزيرة العربية في وقت نزول القرآن ولا يتعلق بأوضاع البشر بشكل عام وبالمطلق، وإلا لما أكد النص القرآني في أكثر من موقع المساواة بين البشر بغض النظر عن جنسهم، والتفرقة الوحيدة القائمة هي بين الأتقياء وغير الأتقياء، والحكم على التقوى هو حكم لله عز وجل ولا يشاطره به البشر، مهما ادعوا أنهم مؤمنون، بل إن من يدّعي أنه قادر على الحكم على تقوى المؤمنين هو من يتعدى على قضايا "ثابتة بنصوص قطعية الثبوت والأدلة".

في النهاية أريد أن أؤكد أن المطلوب قراءة متعمقة غير انتقائية للنص القرآني تتناسب مع التطور في معارفنا وفي رؤيتنا وفي واقعنا الاجتماعي بما يتناسب مع أصول التأويل والتفكير بالأحكام القرآنية والتي دأب عليها العلماء الأوائل في فكرنا العربي الإسلامي.

لا نحتاج إلا لمقدار الحرية التي كان يتمتع بها هؤلاء العلماء الأوائل لنستطيع أن نفكر دون أن تسلط على رقابنا مقولات الخروج عن إجماع العلماء، فهم "رجال ونحن رجال وهم يقولون ونحن نقول"، وهذا لا يفسد الدين والإيمان إنما الجمود والتعصب وإغلاق أعيننا وعقولنا عن التفكير هو ما يفسد.


ليست هناك تعليقات: