الاثنين، أيلول ١٧، ٢٠٠٧

خطة لـ"كفاية" ثانية

معا لخلع الديكتاتور

عبد الحليم قنديل

القاهرة 8/9/2007

قد تكون المشكلة – في جملة – هي أننا نعرف ما لا نريده بالضبط وباليقين وبالتفصيل، بينما لا نعرف ما نريده إلا على وجه الإجمال والعموم.
أما أننا نعرف ما لا نريده، فهذا مما لا نشك فيه، وما لا يشك فيه أحد غيرنا.
نعرف أننا لا نريد هذا النظام بالجملة، فلسنا بصدد مجرد نظام ديكتاتوري استبدّ وعصف، نحن بصدد نظام للانحطاط العام، أو بالدقة: بصدد ركام يسدّ علينا طريق الشمس، ويسدّ على البلد أي طريق معقول للتطور. فمصر – الآن – انتهت لبلدٍ محجوز في الجراج، كل ما كسبته من قوة دفع – عبر قرنين مضيا – تبدد وكأنه لم يكن من أصله، بلد معدوم القيمة – تقريبا – في توازنات الدنيا الفوارة بالحركة من حولنا، بلد أشبه بثقب أسود في تفاعلات التاريخ الذي تكتبه أمم وشعوب نهضت من رماد، بلد فقد استقلاله الوطني الذي تحقق بثورات وانتفاضات عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول وجمال عبد الناصر، بلد تحول إلى مستعمرة أمريكية باحتلال القرار السياسي والاقتصادي والثقافي، بلد منزوع الدور القيادي في محيطه العربي والإسلامي، بلد منزوع السلاح على جبهة سيناء ومنزوع السيادة على جبهة القاهرة، بلد خاضع بالكلية لإملاءات الاستعمار الأمريكي-الإسرائيلي، بلد في خراب اقتصادي مستعجل، بلد كان ينافس "كوريا الجنوبية" في معدلات التنمية والاختراق التكنولوجي قبل ثلاثة عقود ونصف وأصبح الآن في مكانة "بوركينا فاسو" على مؤشر الفساد الدولي، بلد يجري تحطيم وخلع ركائزه الإنتاجية وقلاعه الكبرى التي بناها بالعرق والدم، بلد يجري تجريف أصوله وشفط ثرواته بعصابات النهب العام، بلد تُدهس آدمية مواطنيه بعصا الكبت العام، بلد غاطس – بأغلبيته العظمى – تحت خط الفقر والبطالة والعنوسة، بلد ممزق الروح تجتاحه مشاعر السخط الاجتماعي والإحساس بالذل القومي، بلد محكوم ببيروقراطية اللصوص حيث لا شرعية ولا قانون ولا حتى مقومات الدولة الحديثة التي عرفتها منذ عصر محمد علي، وحيث تحولت مؤسسات الدولة إلى مجرد أقنعة شفافة تفضح الخواء من ورائها. فقد انتهينا إلى حكم مملوكي برأسمالية المحاسيب، وعاد منطق "الإتاوة" يفرض نفسه واصلا بخطوطه الظاهرة والخفية إلى "بيت السلطان"، وانتهى حكم الحزب الواحد إلى حكم عائلة واحدة، انتهينا إلى ملكية بلا دستور، أو بإعدام الدستور ودوس القانون بالنعال.

هدفنا: سيناريو انتقالي

وإذا كنا نعرف ما لا نريده لأنه واقع، فإننا لا نعرف ما نريده بالقدر نفسه من الوضوح واتساع المعنى.
وأول ما نريده – بالإجمال – هو الإنهاء السلمي لحكم مبارك وعائلته، وهذا هو المعنى الظاهر المباشر لشعار كفاية الأشهر "لا للتمديد.. لا للتوريث".
غير أن رصد ما نريده على هذه الصورة لا يكفي، وإن كان مختلفا إلى حد القطيعة مع تصورات إصلاح ما لا يقبل الإصلاح. فقد تلهّت الحركة الوطنية المصرية لعقود في أوهام الإصلاح بالتدريج، بينما تكرّس للطغيان بالجملة، وانتهى الأمر إلى احتقار شعبي عظيم للسياسة.
ولا يكفي لرد الاعتبار للسياسة أن نصوغ الهدف بوضوح، ولا حتى أن نعرض على الناس رؤانا عن مجتمع العدل والحرية (مثال: وثيقة مصر التي نريد – نحو عقد اجتماعي وسياسي جديد – إصدارات كفاية – أغسطس 2005)، بل قد يلزم قبلها أن نجيب عن السؤال: وماذا بعد نهاية مبارك؟ أي الطرق نسلك بالضبط؟ وهل من سبيل كي لا تقع البلاد في الفوضى أو تنتهي إلى حكم عسكري مجدد يواصل – ويعيد إنتاج – حكم بيروقراطية اللصوص وجماعة البيزنس؟
ونعتقد أن مقترح كفاية عن المرحلة الانتقالية – وقد ظهر مبكرا – قد يصلح جوابا. فخلع الديكتاتور وعائلته لا يعني – بالطبيعة – خلاصا أكيدا من نظام القهر والفقر، إنه فقط مجرد بداية وأول طريق لاستعادة مصر إلى مصر، إنه فقط شرط انتقال من حكم العائلة إلى حكم الشعب.
وقد نجازف بتصور أن تمتد المرحلة الانتقالية لفترة أقصاها سنتين، تترأس البلاد خلالها شخصية عامة تحظى بإجماع وطني، وقد نفضل أن يكون قاضيا أو ذي خلفية قضائية، وأن تدير البلاد خلالها حكومة ائتلاف وطني، تحل محل مؤسسات حكم التزوير والطغيان، تحصر مهامها في تسيير الأعمال وإعداد البلاد للحكم الديمقراطي.
ونتصور أن برنامج حكم الائتلاف الوطني "الانتقالي" قد يصح أن يتضمن – بالأساس – هذه العناصر الجوهرية السبعة:
أولا: إلغاء حالة وقوانين الطوارئ بالجملة، ووقف العمل بتعديلات الانقلاب على الدستور.
ثانيا: إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، وإلغاء الأحكام التي صدرت بحق مدنيين من محاكم عسكرية أو استثنائية كمحاكم أمن الدولة، وإجراء مصالحة وطنية شاملة بتعويض المتضررين من الاعتقال العشوائي وجرائم التعذيب.
ثالثا: إلغاء كافة القوانين واللوائح والمراسيم المقيدة للحريات، وإطلاق الحريات العامة بتقرير حقوق تكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات واتحادات الطلاب وهيئات التدريس، وحريات الاجتماع والتظاهر والإضراب والاعتصام السلمي بدون قيود إلا ما تعلق منها بحظر التشكيلات العسكرية أو شبه العسكرية، وصيانة مبدأ المواطنة بلا شبهة تمييز.

رابعا: ضمان الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، وتقرير الإدارة القضائية التامة للانتخابات والاستفتاءات بكافة أنواعها وفي جميع مراحلها، وتقرير حق التصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة بالبطاقة الشخصية أو العائلية أو بطاقة الرقم القومي، وإلزام كافة المرشحين لأي هيئة تمثيلية أو تنفيذية بتقديم إقرارات ذمة مالية تنشر في كافة وسائل الإعلام وتقبل الطعن عليها في مدى محدد من عموم المواطنين.
خامسا: تنظيم محاكمات علنية أمام القضاء الطبيعي لعائلة مبارك وكافة المسئولين الذين عملوا تحت إمرته، والذين أصدروا قرارات – أو عهد إليهم بالتنفيذ والمتابعة – بالتصرف في أصول مملوكة للشعب أو للدولة، أو شغلوا مناصب أساسية في الحزب الحاكم ووسائل الإعلام المملوكة للدولة، والذين أصدروا قرارات الاعتقال العشوائي، أو كانت لهم مسئولية مباشرة – أو غير مباشرة – عن جرائم التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، والذين تضخمت ثرواتهم من رجال الدولة أو القطاع العام أو قطاع الأعمال العام والخاص.
سادسا: تنظيم ثلاثة استفتاءات شعبية في قرارات بتجميد أو إلغاء الالتزام بمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، ووقف برنامج الخصخصة ، ورفض المعونة الأمريكية، وحل هيئاتها، وطرد منتسبيها الأجانب من مصر، وحظر التمويل الأجنبي لأي حزب أو هيئة أو منظمة مدنية.
سابعا: فتح أوسع حوار شعبي في وسائل الإعلام العامة – المدارة بهيئة مستقلة – لإعداد دستور جديد يكفل مكتسبات الشعب المصري عبر مراحل نضاله الطويل، ويتضمن كافة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانتخاب جمعية تأسيسية شعبية تصادق على الدستور الديمقراطي في نهاية الفترة الانتقالية.

تنظيمنا: ائتلاف التغيير

وبالطبع لا يمكن تصور إمكان الوصول "التلقائي" لأهدافنا القريبة، أي الإنهاء السلمي لحكم مبارك وعائلته والتقدم لسيناريو المرحلة الانتقالية الآمن، إذ لا يمكن لأحد – لا نحن أو غيرنا – أن يبلغ أهدافه بدون تنظيم كاف مؤهل يحملنا إلى الغايات.
وربما تكون نقطة البدء بإدراك المطلوب – فيما نتصور – أن كفاية لم تعد "كفاية"، أو بعبارة أخرى أدق فإننا نحتاج الآن إلى كفاية ثانية، كفاية أكبر من كفاية.
كفاية – حين ظهرت – كانت ظاهرة خارقة لحاجز الصوت في البلد. لم تنشأ من فراغ بالطبع، ولا كانت محض كدّ ذهني وعملي لمبادرين، بل نشأت من قلق اجتماعي وسياسي تدافعت مظاهره، نشأت من أزمة اقتصاد "التكييف الهيكلي" لحكم النهب العام، ونشأت من اجتماع السخط الاجتماعي إلى الذل القومي في غزو العراق، وعلى نحو ما بدا في دراما مظاهرة ميدان التحرير في 20 و21 مارس 2003، ونشأت من اختراقات صحافة حرة تحدّت السقف المفروض وكسبت للمصريين حق نقد الرئيس-الفرعون، ونشأت من ميل محسوس في حركة المصريين السياسية إلى "ائتلاف وطني" في لحظات الخطر والحيرة الجامعة. غير أن كفاية لم تكن مجرد صدى لأصوات مفرّقة على السطح أو غائرة في العمق، بل كانت صوتا في ذاتها، كانت "قطيعة" مع ظاهرة ركود طويل استبد بالحركة الوطنية المصرية، كانت صرخة المصريين المحبوسة التي طلعت من حنجرتهم بالذات، كانت "اللا" الأقوى – وبامتياز – منذ انتفاضة 1977.
نعم، ظهرت "كفاية" كمبادرة لكسب الحرية، كإصبع يومئ إلى طريق، كدعوة بأكثر منها حركة، كمظاهرة بأكثر منها مؤامرة، وبدت في تنظيمها التلقائي كأنها بلا تنظيم من أصله، وهذه نقطة امتيازها وضعفها في آن، فلو كانت تنظيما بكشوف عضوية لتحولت إلى حزب يضاف، ولو تحولت إلى هيئة ثابتة لضاعت في حساب المكاسب والخسائر، لكنها بدت كالقدر الذي يلاقي أصحابه، بدا تنظيمها الرمزي – إن شئت – أشبه بريشة في هواء، بدا كأنها تتحرك بالطاقة الشمسية، وليس بطاقتها التنظيمية النووية الذاتية، تصعد بحرارة الظروف، وتأوي إلى سكن كلما حل شتاء أو لاح خريف، اندفعت في عامها الأول (سبتمبر 2004 – سبتمبر 2005) إلى جموح تستحقه بالاسم، وكانت مظاهراتها الأكبر (في 7 سبتمبر 2005 و10 سبتمبر 2005) تخترق قلب القاهرة، ثم بدا مع اغتصاب مبارك الخامس للرئاسة أن قواها قد أُنهكت وغامت روحها، لكنها صعدت مجددا مع هبة القضاة في مايو 2006، ثم ركنت إلى قسط من الراحة واختزان الحلم، غاضت ملامحها وإن لم تختف، وبدا أن شعارها الأصلي "لا للتمديد.. لا للتوريث" تحول إلى لافتة معلقة على جدار، أو إلى بوستر زاهي الألوان – بالأحمر والأصفر – يعصم القلب من التسليم باليأس، بدا النشطاء والنشيطات – الأكثر صلابة – على استعداد للمغامرة – حتى لا نقول المقامرة – بروح كفاية، بدا الميل لتذويب نداء "كفاية" الاستثنائي في حمض كبريتيك العادي والمكرور، بدا الميل لندوات ومؤتمرات واجتماعات "كفاية" مصحوبا بقلة التظاهر والمتظاهرين، بدا الميل لخوض معارك احتجاج جزئي مصحوبا بترك – ربما تعليق – المعركة الكلية، بدا الميل للتقاعد ظاهرا عند كثيرين حتى من المبادرين، بدا الميل لوضع المراقب أو المتابع النشيط لتيار الحوادث غريبا على حركة كانت لها كلمة الخلق.
هل من سبيل لاستعادة ألق كفاية الأول؟ لا يبدو الأمر مجرد قرار، فقد كانت دعوة كفاية على الدوام أكبر من تنظيمها، والدليل: أن دعوة كفاية راحت تؤثر بشدة في مجرى الحوادث حتى مع خفوت الصوت، اختراق حواجز الخوف الذي بادرت إليه كفاية راح يخلق روحا جديدة عفية في البدن المصري الهامد، تحركات القضاة وأساتذة الجامعات وقطاعات من المهنيين أخذت قبسا من روح كفاية، وفي العمق الاجتماعي كان الأثر واصلا رغم عدم وجود خطوط مواصلات سالكة، بدت مصر كأنها تستعيد الروح، أو كأنها تستعيد الإحساس بالألم بعد الغيبوبة الطويلة، وتحول التظاهر والإضراب والإعتصام السلمي – بالعدوى – إلى رياضة شعبية. ومع نهايات 2006 بدا المشهد مختلفا، إضرابات واعتصامات للعمال شارك بها مئات الآلاف، وانتفاضات جريئة بقطاعات من المصريين من أقصى الشرق في العريش إلى أقصى الشمال في البرلس، واحتجاجات بالتظاهر ضد القهر والفقر والظلم الذي استسلم له الناس طويلا وكأنه حكم العادة، وصحافة حرة يتزايد تأثيرها وتأثرها بروح "كفاية" النقدية الجامحة، وبالجملة: زادت مظاهر الحركة على جبهة العمق الاجتماعي، بينما بدت المدافع ساكتة على جبهة السياسة المباشرة، وهو ما يجب أن يلفت النظر. فنجاح "كفاية" كدعوة هو الذي أبان قصورها كحركة، وضاعف الخشية أن تنتهي كذكر النحل كل دوره أن يلقّح الملكة ويموت، وهو ما يعني بالضبط أننا في أشد الاحتياج الآن إلى دورة كفاية جديدة، أو كفاية "ثانية"؛ نحتاج – بالذات – إلى قيادة سياسية لجبهة الغضب الاجتماعي الطافر المطردة، نحتاج إلى كفاية الأكبر من كفاية.
وقد نجازف بتصور تدعونا إليه روح كفاية. فقد كانت كفاية الأولى استثنائية في تألقها لأن ظروف هذا البلد استثنائية في تعثرها. لو كنا في بيئة ديمقراطية لدعونا – ربما – إلى جبهة إنقاذ أو جبهة خلاص وطني تُستدعى لها أحزابها، لكن الأحزاب على ما نعرف، ولظروف وأسباب قد لا يكون المقام مناسبا لشروحها، وثمة تجربة بأحزاب هي تجربة (الجبهة الوطنية من أجل التغيير) وقد آلت إلى ما آلت إليه من انحسار الدور والمعنى، ربما السبب: أن خيال "كفاية" لم يكن هناك بما يكفي. والأهم:أولا: روح كفاية واعتقادها في كسب الحرية بالمقاطعة والعصيان،ثانيا: اتجاهها إلى خط العمل المباشر على جبهة الشارع، ثالثا: روح الائتلاف إلى حد الامتزاج الوطني الغالبة على تكوينها،رابعا: ابتعادها بالعمل عن عناصر تيبست برؤاها ومفاصلها المفكوكة، خامسا: خيالها التنظيمي المرن المفتوح باتساع أسفلت التظاهر، هذه العناصر الخمسة بالذات جوهرية في الدعوة إلى "كفاية الثانية" أو "إئتلاف المصريين من أجل التغيير"، ونتصور أن "ائتلاف التغيير" الذي ندعو إليه قابل للتكوين من خمس موارد بشرية هي كالتالي:
أولا: كفاية ذاتها، وهي النواة الصلبة للائتلاف المقترح.
ثانيا: الأحزاب اللصيقة بحركة كفاية، وهي مدعوة للاحتشاد بكامل عضويتها في "ائتلاف التغيير"، وروابطها وامتداداتها في المجتمع عنصر بالغ الأثر في عملية التنظيم، والأحزاب المقصودة هي "الكرامة" و"منظمة الاشتراكيين الثوريين"، و"الوسط" و"العمل" و"الغد – جناح أيمن نور"، والباب ذاته مفتوح لآخرين بشرط نقاوة الالتزام الوطني والابتعاد عن جماعات التمويل الأجنبي.

ثالثا: الشخصيات الوطنية العامة والقاطعة في انتسابها لأشواق التغيير، وهي طيف واسع غالب في المشهد المصري الآن، وتؤثر بشدة في مزاج رأي عام معارض بعنف آخذ في التكون والاتساع.
رابعا: لجان تنسيق الأحزاب والنقابات بالمحافظات والمدن الكبرى، وتلك تكوينات ظهرت أدوارها المؤثرة في سياق الدعم الوطني لانتفاضة فلسطين والشعب العراقي، ويمتاز أفرادها بضعف التعصب للأحزاب مقابل ميل زائد لعمل وطني جامع، والروح السائدة فيها راديكالية قريبة في العموم من مزاج كفاية، وهذه اللجان تضم – غالبا – ممثلين لجماعة الإخوان في وفاق معقول مع الأحزاب الأخرى.
خامسا: القادة الطبيعيون للإضرابات والاعتصامات وحركات الاحتجاج الاجتماعي المطردة في الشهور الأخيرة.
(ملحوظة: تنظيم "ائتلاف التغيير" شبكي، والتفاصيل عن النظام الأساسي وضربة البداية ربما لا يكون المقام مناسبا للتطرق إليها)

طريقنا: المقاطعة فالعصيان

لا تبدو اللحظة عادية في تاريخ هذا البلد.
فثمة عاصفة تقترب. وقد نجادل في مدى توافر "وضع ثوري" من عدمه، فالظلم واقع، والوعي بالظلم مطرد في قطاعات اجتماعية نامية، لكن تخلّف الشرط الذاتي لحركة التغيير هو المشكلة الكبرى.
ودون الدخول في مجادلات مرهقة، فإن النظام القائم يبدو معلقا من الناحية الاجتماعية، طبقة المصالح الحاكمة مملوكية الطابع دائرة في فلك بيت السلطان، ارتباطها بالاستعمار الأمريكي هو الحبل السُري، وارتباطها بفوائض النهب العام أكثر وضوحا مع ضعف طابعها الإنتاجي. وقواعدها الاجتماعية، ومقدرتها على الرشوة العامة، تضعف، ولنلاحظ ضعف نسب التصويت والمشاركة – إلى حد التلاشي – في استفتاءات النظام وانتخاباته الأخيرة، فثمة انصراف عام عن النظام. صحيح أن بقايا نظام الدعم للسلع الأساسية تتكفل ببعض الهدوء على الجبهة الاجتماعية، لكن موجات الغلاء والتضخم وانهيار الخدمات الأساسية تضعف ما تبقى من ولاء اجتماعي، وتدفع إلى مرئى البصر بظواهر قلق اجتماعي متحفز، وربما لا يتبقى من ركائز النظام راسخا غير جهاز أمن متضخم، وجيش قابل للاستدعاء في لحظة الخطر العاصف.
هذه الصورة العامة تقول – ببساطة – أن تحدي النظام ممكن، خاصة أن برنامج التغيير الانتقالي لا يعني – بمنطوقه – ثورة كاملة الأوصاف، بل هو – إن جاز التعبير – مجرد خطوة ثورية وذات طابع وطني جامع.

المهم – هنا – ألا نخطئ الطريق. فقد تنزلق الأمور ببساطة إلى نهايات أخرى، كأن تنزلق البلد فجأة إلى انفجار اجتماعي تلقائي بتكلفة دموية، أو أن تتدخل عناية الأقدار فجأة بموت حسني مبارك، وفي الأحوال كلها ربما ننتهي إلى حكم جيش بقناع مدني، أو إلى صيغة تركية – تنحسر الآن – وتنطوي على "ديمقراطية الخوذات".
ووظيفة حركة التغيير – فيما نظن – خلق توازن جديد، خلق قيادة مجتمع تستنفر قوة الناس القادرة وحدها على تحدي قوة السلاح، و"ائتلاف التغيير" الذي ندعو إليه هو مجرد نواة أكبر لحركة تغيير بطول وعرض وعمق المجتمع، والشرط الجوهري لتفجير الطاقات الكامنة هو الالتزام بثنائية المقاطعة-العصيان، ولا يبدو ذلك اختيارا بالقرعة بين بدائل أخرى، لأن كل الاختيارات الأخرى انتهت إلى إفلاس. فالتعويل – فقط – على خلق رأي عام معارض أو رافض لا يبدو كافيا، ثم أنه قابل للتبدد والخداع بسطوة احتكار النظام لوسائل الإعلام في غالبها الساحق، والأهم: أننا بصدد حكم معلق منعزل ضعيف الحساسية – إلى حد التناحة – لحكم الرأي العام، ثم أن التعويل على فكرة التدرج بخوض انتخابات، والتغيير التراكمي بالإحلال في بنية السلطات، هذه الفكرة فات أوانها، ولم تكن في الأصل غير سراب ملون، ثم أننا انتهينا – في أي حال – إلى التعطيل التام، فالانتخابات انتهت إلى تعيينات، والإشراف القضائي انتهى – بانقلابات الدستور الأخيرة – إلى إشراف عملي لضباط الشرطة، إذن فقد باتت كل الطرق مغلقة لتغيير سلمي بالتدرج، ولم يبق مفتوحا غير طريق المقاطعة فالعصيان المدني.
والمقاطعة ليست عملا سلبيا كما يشاع، بل المقاطعة هي الفعل الإيجابي في تمامه الآن، وقد قاطعت جماعات المعارضة كلها الاستفتاء الأخير على تعديلات الدستور، وقاطع نوابها – قبل الاستفتاء – جلسات المناقشة والتصويت، ومقاطعة بهذا المعنى تعني مقاطعة نظام وليس مقاطعة إجراء. فالدستور ليس قانونا للمرور، الدستور هو حجر الأساس في أي نظام سياسي، وهو واسطة العقد الضمني للتعايش، الدستور هو قسيمة الزواج، وفك العقد يعني إنهاء العلاقة فالطلاق البائن، والخلاف – إلى حد المقاطعة – بصدد الدستور يعني إسقاط الاعتراف بالنظام، وهذا جوهر ما نعنيه بالمقاطعة، أي أننا لا نعترف بشرعية لنظام انتهى إلى حكم الغابة لا حكم الدستور.
المقاطعة تعني – حكما – عدم شرعية النظام، وتعطي في الآن نفسه شرعية للخروج السلمي عليه بالعصيان، وقد كانت هذه عقيدة كفاية منذ ظهرت، وهي تصح الآن كعقيدة لتنظيم "ائتلاف التغيير" الذي ندعو إليه، والمعنى أنه ليس واردا أن ينضم أو أن يدعى للائتلاف من لا يبدأ بالمقاطعة، فالمقاطعة هي أول درجات العصيان.
وقد لا يصح – بالبداهة – أن نتقدم إلى عصيان مدني شامل بدون توافر وسائله ولحظته المناسبة، وربما علينا أن نتقدم إلى درجات متداخلة من العصيان السياسي القابل للتحول إلى عصيان مدني.
العصيان المدني أمره مفهوم، أما ما نقصده بالعصيان السياسي فيتعلق بنخب السياسة وامتداداتها في النشاط العام، العصيان السياسي يعني – ببساطة – كسر الأوامر والتحكمات والقوانين المنظمة بالكبح للنشاط السياسي. فالمبادرة إلى وقفة احتجاجية أو إلى مظاهرة أو إلى إضراب أو إلى اعتصام سلمي، كلها أنواع من العصيان السياسي، والسبب: أن كل ذلك محظور بنصوص القانون الرسمي، ووجود "كفاية" في ذاته عصيان سياسي، وإقامة حزب أو نقابة أو جمعية بصورة علنية – وبدون إذن رسمي – هو عصيان سياسي، والمطلوب: تعميم العصيان السياسي، فهو الشرط الجوهري لبناء قيادة سياسية تستحق الصفة على جبهة الغضب الاجتماعي.
وقد يصح هنا أن نورد اقتراحات بحملات عصيان – بعضها بدأ بالفعل – يتداخل فيها السياسي والاجتماعي، وفيما يلي بعض العناوين:

· حملة "لا لبيع مصر": وقد بدأت من كفاية قبل شهور، وتحتاج إلى زخم أكبر قد يتوافر بالتقدم إلى بناء "ائتلاف التغيير"، وفكرتها الجوهرية هي انعدام مشروعية التصرفات الاقتصادية لنظام غير شرعي، وإسقاط الاعتراف بعمليات بيع الشركات والأصول والأوضاع المترتبة عليها، وقد يصح أن ندعم الحملة – على نحو ما نص عليه اقتراحها – بإعداد قوائم سوداء للمتورطين في جرائم الفساد والنهب العام، وضم جرائم بيع الهيئات الخدمية – كخصخصة التأمين الصحي – إلى ملف الحملة، ونقل الحملة للشارع وجعلها موضوعا للتظاهر السلمي.
· حملة "ضد التعذيب": ولها مقدمات ظاهرة بمشاركة نشطاء ونشيطات "كفاية" في وقفات احتجاج ضد جرائم التعذيب، والمطلوب: حملة واسعة وممتدة متعددة الوجوه، وقد يصح أن نضم إلى جرائم أقسام الشرطة ملف متخم بقضايا التعويضات عن جرائم التعذيب في المعتقلات، وعن الاعتقال العشوائي لآلاف المفرج عنهم، وعشرات الآلاف من المحتجزين إلى الآن دون محاكمة أو اتهام، ومئات المختفين قسريا، أو الذين استشهدوا في حوادث قتل نظامي خارج القانون، فضحايا الاعتقالات والتعذيب طبقة هائلة العدد في المجتمع المصري الآن.
· حملة "ضد الجباية الحكومية": بالامتناع عن دفع فواتير الخدمات غير المؤداة، وثمة تجربة موحية يقودها أحد قيادات كفاية في الجيزة، توافرت لها خبرات مفيدة في طرق دفع المواطنين للامتناع عن دفع رسوم الزبالة المضافة على فواتير الكهرباء، وهو ما يستحق الالتفات والتنظيم، وتعميم السلوك ذاته بصدد ظواهر الإجحاف والمغالاة في فواتير المياه والكهرباء والتليفونات والغاز الطبيعي، أضف: رسوم الجباية التي تفرضها الوزارات والمحافظات والمحليات.
· مبادرة "الإعلان من طرف واحد": وهدفها انتزاع حق التنظيم العلني بالإخطار وليس بالترخيص، وحق إعلان الأحزاب والنقابات والجمعيات دون إذن مسبق من السلطات. والمطلوب – ببساطة – إعداد وثيقة تستند إلى الوثائق والعهود الدولية لحقوق الإنسان التي وقّعت عليها مصر كدولة، وتؤكد الحق البديهي في حرية التنظيم، وبالتوازي مع إعداد الوثيقة يدعى الراغبين في إعلان أحزاب أو نقابات أو جمعيات لإعداد مقار علنية وتشكيلات قيادية متفق عليها، وتتوج المبادرة بالدعوة لمؤتمر صحفي عالمي يجري فيه الإعلان من طرف واحد مع إلقاء قانون الأحزاب وقانون الجمعيات في أقرب مقلب زبالة.
· مظاهرة المئة ألف: والمقصود هو الإعداد لمظاهرة كبرى في ميدان التحرير تطالب برحيل مبارك وعائلته، وهذه قفزة بالغة الأهمية في دفع الحوادث للتطور من حالة العصيان السياسي المحدود إلى العصيان المدني الأوسع، تتطلب – فيما نظن – بناء "ائتلاف التغيير" أولا، والتمهيد الواسع بسلاسل مظاهرات متدرجة في زخمها وتوسيع قاعدة الأطراف المشاركة، ودفع قطاعات مؤثرة في الحركة السياسية للتضامن مع "كفاية" واختبار التوقيت المناسب بإيحاءاته وحوادثه.

هذه – فقط – بعض العناوين، وربما يكون لدى آخرين عشرات المبادرات، وفي ذلك – ومثله – فليتنافس المتنافسون.

ليست هناك تعليقات: