الأحد، أيلول ٢٣، ٢٠٠٧

القوميّة العربيّة أوالقانون الضّرورة

وليد سلامة - كاتب و محام عربيّ من تونس

ليست القوميّة العربيّة وليدة فكر أو إجتهاد ذهنيّ إنسانيّ حتّى يمكن للبعض التّنبؤ لها بالزّوال و الإندثار نتيجة لعوامل معيّنة.فأصحاب هذا التنبّؤ يخلطون بين القوميّة العربيّة و نظريّتها. و الفرق بين الإثنتين هو أنّ الأولى تمثّل قانونا علميّا في حين تمثّل الثّانية رؤى لكيفيّة تجسيد ذلك القانون في مراحل تاريخيّة معيّنة. و تبعا لذلك ، فالقوميّة العربيّة خالدة خلود الحقيقة العلميّة في حين تبقى نظريّات القوميّة العربيّة نسبيّة و متغيّرة تسعى إلى التّطوّر بالموازاة مع تقدّم الإنسانيّة و فكرها.و اتّساقا، لا يمكن ربط القوميّة العربيّة بنجاح تجربة سياسيّة هنا أو فشلها هناك. فعدم توصّل الإنسان إلى إكتشاف حقيقة معيّنة لا يعني أنّ هذه الأخيرة غير موجودة ، فضلا عن أنّ إكتشافه لها لن يغيّر في ماهيّتها شيئا. فالموجود موجود سواء إكتشفناه أو لا. و إذا لم يتوصّل الإنسان إلى وسيلة تتيح له الإنتفاع بهذه الحقيقة فهذا لا يعني أنّها قاصرة عن نفعه. إنّها فقط بإنتظار إرتقاء فكره لمستوى من الإبداع أعلى، يسمح له بخلق الوسيلة الكفيلة بتجنيدها لمصلحته.
كذلك الشّأن بالنّسبة للقوميّة العربيّة ، فهي حقيقة علميّة موجودة بقطع النّظر عمّا إذا تمكّن الفلاسفة و المنظّرون من إبتكار نظريّات تبرزها، أو قصر ذكاؤهم عن أداء هذه المهمّة.
عبر هذه الأسطر ، سنحاول تقديم ماهيّة القوميّة العربيّة كما نراها بما تمثّله من ضرورة لنهضة العرب، دون الخوض في معاني النّظريّة القوميّة التّي سنتناولها بالدّرس في كتابات لاحقة.
كثيرون ممّن إدّعوا سابقا معرفتهم بالقوميّة العربيّة جانبوا الصّواب في تعريفهم إيّاها، ضرورة أنّهم فحصوها برؤى غير عقلانيّة إعتمدت في غالبها على معايير عرقيّة أو طائفيّة . فكانت هذه القراءات القاصرة مصدرا لنظريّات قوماويّة مشوّهة للحقيقة القوميّة ذاتها. و الإمتداد الطّبيعي لهذا البناء النّظريّ السّقيم تمظهر في تقديم القوميّة العربيّة بشكل لا يعبّر إطلاقا عن كينونتها. فكان أن صوّروها كقوّة مواجهة للإسلام و متحالفة مع الفكر المادّي الغربيّ، ثمّ إستعاضوا عن ذلك بأن جعلوها مرتبطة بفكر طائفيّ سنّي، لينتهوا أخيرا إلى القول بأنّ عصرها قد ولّى بعد أن ثبت فشل مشروعها و أنّها مندثرة لا محالة. والحقيقة أنّ أغلب من شوّهوا ماهيّة القوميّة العربيّة لم يكونوا من مناصريها، بل كانوا منتسبين لأفكار تقدّم نفسها كبديل للفكر القوميّ.
غير أنّ كلّ ذلك الخلط لا يمكن له أن يحجب حقيقة القوميّة العربيّة و التّي نقدّمها على أنّها قانون التّفاعل الجدليّ الإيجابي لقيم و مباديء حضاريّة تبنّاها الوعي المشترك لمجموعة بشريّة إختارت العربيّة وسيلة تواصل فيما بينها، و الذّي تمكّن من تأسيس شخصيّة موحّدة لها مجسّدة في الأمّة العربيّة عبر إرساء معالم حضارة مشتركة بين مكوّناتها في الماضي و إستمراره كضرورة لنهضتها في الحاضر و رسم ملامح تطلّعاتها الموحّدة للمستقبل ، حافظا لما في هذه الشّخصيّة من مزايا التّنوّع عاملا على تطويرها و إثرائها إعتمادا على مكامن عبقريّتها الذّاتيّة و زبدة التّجارب الإنسانيّة
.
إصرارنا على أنّ القوميّة العربيّة تمثّل قانونا ،لا يجد مصدره في عواطف نحسّ بها كمنتمين للأمّة العربيّة ، بل يتجاوز ذلك إلى التّحليل الموضوعيّ المعتمد فقط على المنهجيّة المنطقيّة التّي تتّبع عادة لإكتشاف الحقائق العلميّة. فالعواطف لا تخلق الحقيقة بل تعتنقها أو ترفضها .

القوميّة العربيّة قانون تكوين الأمّة العربيّة

كي نحلّل ظاهرة إجتماعيّة لا بدّ لنا من الرّجوع إلى الخلفيّات التّاريخيّة التّي أدّت تراكماتها إلى تكوينها. و التّاريخ يعلّمنا أنّ هذه المجموعة البشريّة المعروفة اليوم تحت إسم" العرب"، هي وريثة سلسلة من الحضارات الإنسانيّة الرّاقية كالفرعونيّة و القرطاجيّة و الآشوريّة و البابليّة و اليمنيّة إلخ...فهي باختصار من أثرى المجموعات البشريّة زادا على المستوى الحضاريّ . ونقطة التّحوّل المفصليّة لهذا الشّعب حدثت عندما خرج محمّد بن عبد اللّه(ص) على قومه في شبه الجزيرة العربيّة معلنا إعتناقه لمباديء فيها ما هو جديد و فيها ما هو مقوّم لما سبقه. فكان أن إنتشرت هذه المباديء في أرجاء شتّى من العالم و صنعت حضارة بلغت حدّا من الرّقيّ ضمن لها مكانة تاريخيّة لا جدال في سموّها. وكان للطّبيعة العقلانيّة لهذه المباديء الفضل في إستخراج زبدة ما أنتجته الحضارات السّابقة لهذا الشّعب و خلق حالة من التّفاعل الجدلي معها صنعت ما اصطلح على تسميته بالحضارة العربيّة الإسلاميّة. و من الخطأ الإدّعاء بأنّ سكّان الجزيرة العربيّة كانوا صناع هذه الحضارة لوحدهم. فهذا مناف للتّحليل العلميّ للتّاريخ. ضرورة أنّ ما تمّ إنجازه من إبداع إنسانيّ في هذا الإطار كان نتاجا للتّفاعل الإيجابيّ لكلّ مكوّنات المجموعة البشريّة التّي عاشت تحت ظلّ هذه الحضارة، لا فضل في ذلك لمجموعة على آخرى. فأحفاد رمسيس و حنّبعل و حمّورابي لا يمكن أن يكونوا مجرّد متلقّين سلبيّين لما يبدعه غيرهم متى وجدت أمامهم فرص الإبداع. وهو ما وفّرته لهم المباديء التّي جمعت بينهم في تلك المرحلة التّاريخيّة. و لأنّ لكلّ حضارة مقوّماتها التّي تضمن لها التّماسك و الإستمرار فقد كانت اللّغة( و لا تزال) أهمّ هذه المقوّمات.إنّها الضّامن المبدئيّ و الرّئيس للتّواصل و التّفاعل بين المجموعة البشريّة الصّانعة للحضارة. و كان من الطّبيعيّ أن يقع الإختيارعلى اللّغة العربيّة بوصفها اللّغة التّي بلورت المباديء التّي بشّر بها الرّسول محمّد (ص)، إذ أنّ فهم هذه المباديء يمرّ بالضّرورة عبر إتقان تلك اللّغة. و اللّغة ليست مجرّد قواعد صرف و نحو، بل هي تعبير عن خصائص النّاطقين بها. و هو ما يفسّر تغيّر اللّغة العربيّة عمّا كانت عليه قبل الإسلام . فخروجها من شبه الجزيرة العربيّة و تداولها بين ألسنة أخرى غير ألسنة سكّان منطقة نشوئها طبعها بخصائص المتكلّمين الجدد بها إضافة لما فيها من خصائص أصليّة. و قد كانت اللّغة العربيّة بحقّ مثالا لما يمكن أن تنتجه العلاقة الجدليّة بين أطراف متعدّدة من تفاعل و انصهار.
إنّ التّحليل التّاريخيّ يستوجب منّا الإجابة عن السّؤال التّالي: هذه المباديء التّي بشّر بها الرّسول محمّد(ص) انتشرت في أصقاع عديدة من العالم غير ما يعرف اليوم بالعالم العربيّ، فما الذّي يجعل من هذا الأخير وحدة خاصّة متميّزة عن غيره؟
الإجابة يقدّمها التّاريخ نفسه. فمع بداية إنهيار الحضارة العربيّة الإسلاميّة و ضعف قبضة السّلطة السّياسيّة سعت مجموعات بشريّة معتنقة للدّيانة الإسلاميّة للإنفصال السّياسيّ الذّي بعد أن إستكمل شروطه تطوّر بسرعة لإنفصال حضاريّ قوامه الإنعزال عمّا يمكن أن يشكّل رابطا بالعرب. فكان أن عادت اللّغات الأصليّة لتلك المجموعات للإزدهار حتّى أصبح المسلم من أفرادها لا يتكلّم العربيّة إلاّ لأداء الطّقوس الدّينيّة .و صار العامّة يحتاجون من يفسّر لهم مباديء الإسلام بلغتهم الأمّ . فكانت هذه الخطوة التّاريخيّة التّي و إن لم تستطع فكّ الرّوابط الدّينيّة ( في حدّها الأدنى على الأقلّ) بينهم وبين المتكلّمين بالعربيّة إلاّ أنّها فصلت بينهم حضاريّا. وعادت الكثير من الخصوصيّات للمسلمين غير المتكلّمين بالعربيّة لتخلق لهم كيانات مستقلّة بذاتها.
في ذات الحين لم يتمكّن الإنفصال السّياسي من فصل المجموعة البشريّة الممتدّة من المحيط الأطلسيّ إلى الخليج العربيّ فصلا حضاريّا عن بعضها البعض. فكان تداول العربيّة شائعا و غالبا، بما يحمله ذلك من تداول لخصائص و قيم مشتركة تضمّنها التّخاطب اليومي والأدب و الشّعر و الكتابات في مختلف الميادين. فما يقال و يكتب في بغداد يتدارسه النّاس في القيروان و طنجة دون حاجة لوساطة ترجمة، و العكس صحيح. فبقي بذلك الرّابط الحضاريّ قائم الذّات و بقوّة رغم إنهيار المؤسّسة السّياسيّة الموحّدة. و نحن نؤكّد مرّة أخرى على ما في اللّغة من مزايا تضمن الوحدة. و من السّطحيّة النّظر إليها على كونها مجرّد وسيلة للتّخاطب( على ما في التّخاطب من تأثير متبادل بين المتخاطبين). فاللّغة العربيّة كانت و لا تزال أهمّ سبب يجعل ممّن يتكلّمها باختلاف لهجاتها) يتأقلم بسرعة قياسيّة مع أيّ مجتمع يتداولها. لقد نجح إختيار التّواصل باللّغة العربيّة في خلق شخصيّة جديدة لجملة مكوّنات المجموعة البشريّة التّي تتكلّمها. ، فهي تحمل في طيّاتها حصيلة التّفاعل الجدلي البنّاء بين الخصائص القديمة لهذه المكوّنات و المباديء الجديدة التّي صارت تسير عليها الحياة . والتّاريخ أثبت أنّ هذا التّفاعل لم يكن نتاجا لضغط أو إكراه. فمنطقة المغرب العربيّ مثلا حكمت لقرون من قبل سلطات ذوات أصول بربريّة أصرّت على أن تواصل مسيرة التّفاعل رغم أنّه كان بإمكانها إتيان ما قام به الفرس في إيران أو الأتراك في تركيا. و لم يقدّم التّاريخ ما يفيد أن البربر حين حكموا المغرب العربيّ أصرّوا على إضفاء الطّابع البربريّ القديم على الحياة العامّة، بل على العكس من ذلك فقد حاولوا إثراء الحضارة العربيّة عبر تشجيع الأدب و الشّعر و بعض الأعمال الفكريّة الأخرى ذات الطّابع اللّغوي العربيّ. وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك حين إدّعى أنّه من أصول عرقيّة عربيّة حتّى يقتنع العامّة بجدارته بحكمهم على ما في هذا الأمر من سذاجة و قصر نظر.
و علينا هنا ألاّ نفوّت الفرصة للإشارة إلى أنّ هذا الشّعب تعرّض في السّابق إلى سيطرة حضارات أجنبيّة عنه لقرون عديدة إلاّ أنّه لم يبد أبدا تمسّكا بها فقد بقيت غريبة عنه دائما، وظلّ يقاومها باستمرار و بمجرّد زوال سيطرة الغزاة سياسيّا عليه ،أزال ما علق منهم من قيم و معايير كانت تضبط عيشه في ظلّهم.و لو أنّه كان ينظر للحضارة العربيّة الإسلاميّة بنفس المنظور لكان تخلّص منها بمجرّد ركونها إلى الضّعف. ونحن نسجّل إلى اليوم حنينا قويّا لهذه الحضارة يكنّه غالب المتكلّمين باللّغة العربيّة بمن فيهم من لم يعتنق الإسلام أصلا.و قد برهن المسيحيّون من أبناء هذا الشّعب على إنضمامهم الإختياري للشّخصيّة الجديدة التّي إكتسبتها هذه المجموعة البشريّة عندما عاملوا الصّليبيّين معاملة الغزاة رغم ما حاولوا إغراءهم به من إمتيازات ، فاختاروا موالاة مباديء الحضارة العربيّة الإسلاميّة التّي كانوا من بناّئيها النّجباء.
و في النّهاية كان لا بدّ من إيجاد عنوان يعرّف هذه الشّخصيّة الجديدة التّي بنيت نتيجة تفاعل مختلف المكوّنات البشريّة المنضوية تحت لواء الحضارة العربيّة الإسلاميّة. فكان أن تسمّوا عربا ،ليس لأنّهم ينحدرون من الجزيرة العربيّة كما قد يحاول البعض التّرويج لذلك ،بل لأنّهم إختاروا العيش على هدي اللّغة العربيّة التّي أصبحت تغذّي عقولهم و وجدانهم بما تحمله من معان وقيم و نمط حياة صاغوها بأنفسهم.و انطلاقا من تلك اللّحظة تكوّنت ملامح الأمّة العربيّة الممتدّة حاليّا بين المحيط الأطلسيّ و الخليج العربيّ و التّي تضمّ عناصر ذات خلفيّات عرقيةّ و دينيّة مختلفة .
وبذلك تكون القوميّة العربيّة سابقة لميلاد الأمّة العربيّة ضرورة أنّ الأولى هي القانون العلميّ الذّي بتفعيله خُلقت الثّانية . فالأمّة العربيّة هي الشّخصيّة التّي نجحت القوميّة العربيّة في تكوينها بوصفها قانون التّفاعل الجدلي بين المكوّنات القيميّة للمجموعة البشريّة التّي كانت مجالا لتطبيقه.

القوميّة العربيّة قانون نهضة العرب في الحاضر


إنّ القوميّة العربيّة بوصفها قانونُ خْلق الأمّة العربيّة في الماضي تستمرّ اليوم في فرض نفسها كشرط لبعثها من جديد. و الإدّعاء بأنّه لا حاجة لنا بهذا القانون بحجّة أن لا حاجة لنا ببعث الأمّة العربيّة أصلا، هو طرح مردود عليه . فتشكيل كيانات ممثّلة فيما يعرف اليوم بالأقطار العربيّة لم يقدّم لأجزاء الشّعب- المشتّت بينها - أيّة إضافة حضاريّة. بل على العكس من ذلك ، نحن نشهد
يوميّا الإنعكاسات الكارثيّة لحالة التّجزئة ممثّلة في التّخلّف و التّبعيّة المطلقة للإمبرياليّة.

إنّ هذه الكيانات القطريّة تجسّد تنازل الشّعب العربيّ عن حريّته . فتكوينها لم يكن نتاجا لإرادة شعبيّة ، بل كان محصّلة
لصراعات سياسيّة داخليّة خاضتها العائلات ذوات النّفوذ، كان الحكم هو هدفها لما يوفّره من إمكانات إستغلال على حساب الشّعب .هذا الأمر سهّل على الإمبراطوريّات عمليّة السّيطرة على الوطن العربيّ و العمل - بالتّوازي مع ذلك - على ردم الشّخصيّة الموحّدة للشّعب ممثّلة في الأمّة العربيّة للمحافظة على حالة التّجزئة كشرط تسهيل و دوام هذه السّيطرة. و إلى حين تخلّص العرب - شكليّا - من الإستعمار السّياسيّ ، كان هذا الأخير قد نجح في تعميق جذور أمر واقع ،ملامحه حدود تقسّم الوطن الأمّ ترعاها الطبقة البرجوازيّة بوصفها وكيلا للمستعمر و سمساره الذّي يسهّل عليه إستغلال ثروات الشّعب .
هذه الكيانات القطريّة لا يمكن لها عمليّا معاملة التكتّلات الإمبرياليّة إلاّ بمنطق الموالاة. وليس من الذّكاء في شيء القول بأنّ هناك قانونا دوليّا ينظّم العلاقات بين الدّول و يحفظ حقّ الضّعيف في أن يصبح قويّا، و ذلك بأن يوفّر له معايير السّيادة في مجاله الجغراسياسي و في بناء علاقاته التّي تحفظ مصالحه مع الآخر الأكثر تطوّرا و قوّة. إنّه طرح لا يخدم سوى القويّ الذّي إستكمل شروط قوّته قبل أن يصيغ بنفسه معايير العلاقات الدّوليّة بمختلف تجلّياتها دون أن يترك للضّعيف مجالا لمناقشة مكامن الظّلم و الإستعلاء فيها، و التّي تترك للإمبرياليّة مجالا واسعا للتّصرّف دون قيودعند التّطبيق مراعاة لمصالحها.

بالإضافة إلى ذلك ، يبدو أنّ المؤيّدين لفكرة قيام الكيانات القطريّة، يتجاوزون حقيقة ضعفها المبدئيّ . فهي- منفصلةً- لا توفّر المرتكزات الماديّة الضّروريّة للتّطوّرالجادّ و الفعلي . فقد إكتمل تبلورها في مرحلة تاريخيّة لا تسمح لها بتدارك الهوّة العميقة التّي تفصلها عن الأمم المتقدّمة بالنّظر إلى أنّ التّقسيم السّياسيّ و لئن مكّن بعض الأقطار من ثروات طبيعيّة هائلة إلاّ أنّه حرص على تغييب التّنوّع فيها ، بحيث يبقيها ذلك بحاجة دائمة لإستيراد أغلب الموارد الأخرى، و هو ما يخلق حالة متواصلة من عدم الإكتفاء الذّاتي .
.إضافة إلى أنّ الماسكين بناصية الرّيادة الحضاريّة ( سواء آمنّا بنظريّة المؤامرة أم لا) ليس من مصلحتهم ترك هذه الكيانات تحقّق التّطوّر الحضاريّ المطلوب . فهذا يعني آليّا أنّ هذه الأخيرة ستحاول الإستفادة من ثرواتها و تمركزها الجغراسياسي لمصلحتها أوّلا، ممّا سيؤدّي حتما إلى المسّ من مصالح الأمم القويّة التّي تعتبر المنطقة العربيّة مجالا حيويّا لها بكلّ ما تشكّله من عناصر سياسيّة و إقتصاديّة و حتّى حضاريّة. فحتّى المعسكر الشّيوعيّ السّابق بزعامة الإتّحاد السّوفييتي و رغم كثرة إدّعائه نصرة الشّعوب الضّعيفة ، لم يكن يترك المجال للكيانات القطريّة المتحالفة معه بأن تسطّر لنفسها مسيرة تقدّم جدّية . و ما حصل لمصر و سوريا سنة 1967 خير دليل على ذلك حين تجاهلت تحالفها معهما أثناء العدوان الصّهيونيّ. و بعيدا عن الشّعارات غير الواقعيّة، يؤكّد التّاريخ كما الحاضر بأنّ الأقوياء لا مصلحة لهم في مساعدة الضّعفاء بل أنّ مصلحتهم تكمن في إبقاء الضّعيف ضعيفا عبر تعميق ضعفه حتّى لا يأتي عليه يوم يكون فيه جديرا بالمنافسة.
إنّّنا لا ننكر أنّ قسما من الشّعب العربيّ يعيش في حالة من التّرف لم تتوصّل إليها معظم شعوب العالم. و لكنّ العاقل يدرك أنّ هذا التّرف يخدم أوّلا و قبل كلّ شيء الأمم المنتجة ، فهي التّي تغذّيه كي تجعل من أصحابه مجرّد مستهلكين نهمين لمنتوجاتها. أصحاب هذا التّرف ليست لديهم القدرة على التّحكّم حتّى بأبسط عناصر حياتهم.إنّهم يستوردون العقول لكي تفكّر بدلا عنهم، و السّواعد لتشييد ما رسمته لهم تلك العقول. و كلّ هذا التّرف مرهون في النّهاية بمصلحة الإمبرياليّة، إن شاءت رفعت من وتيرته و إن شاءت خفّضت منها. و من غير المنطقيّ أن يأتي على الإمبرياليّة يوم تسمح فيه لهؤلاء بأن يبنوا لأنفسهم حضارة حقيقيّة بما هي إعتماد على الذّات و إستقلال و من ثمّ إبتكار و إبداع ، ما داموا مستمرّين في العيش وفقا لهذا النّمط، و ما دام هذا التّرف يوهمهم بتفوّقهم عن بقيّة الشّعب العربيّ و يشعرهم -تبعا لذلك- بعدم الحاجة للعمل على بعث الأمّة العربية من جديد. ترفهم ما هو سوى تبديد لثروة الأمّة العربيّة سمحت به النّظرة الأنانيّة البدائيّة التّي لطالما ميّزت نظريّة التّجزئة القطريّة.

و لعلّ الأمر الذّي يزيد من الإقتناع بعدم جدوى إستمرار حالة التّجزئة القطريّة التّي يعانيها الشّعب العربيّ، هو ما نلحظه من سعي لقوى إمبرياليّة و متطوّرة أصلا إلى خلق كيانات موحّدة فيما بينها وعيا منها أنّ ذلك سيزيدها قوّة على قوّتها. نحن لا نستغرب كيف أنّ الفرنسيّ يسعي عمليّا منذ الخمسينات دون كلل إلى التّوحّد مع الألمانيّ و غيره من الأوروبيين خوفا من المستقبل و تحضيرا لحياة كريمة للأجيال القادمة، في حين يتباها العربيّ بإنفصاله عن أمّته مطمئنّا إلى مستقبله إطمئنان الغافل. لسنا نستغرب ذلك لأنّ العقل الأوروبيّ ذو نظرة إستشرافيّة في حين أنّ العقل العربيّ يتعبه التّفكير المعمّق . و لنتخيّل للحظة ما الذّي يمكن أن تفعله الأمّة الأوروبيّة المستقبليّة بمن يقطنون بالجنوب منها مقارنة بما إستطاعت أن تفعله أممها التّي كانت مشرذمة في السّابق... إنّه شيء فظيع. و الأفظع من ذلك أنّ الولايات المتّحدة ستحاول حماية مجالها الحيويّ في المنطقة العربيّة من المدّ الأوروبيّ المستقبليّ ممّا سيؤدّي إلى جعل كياناتنا القطريّة ميدان صراع للجبابرة ...إنّها كارثة. و لكنّ الأدهى من تلك الفظاعة و الأمرّ من هذه الكارثة هو غياب النّظرة السّتراتيجيّة للعربيّ التّي تسمح له بإدراك خطورة إستمرار الوضع على ما هو عليه .
و نحن نؤكّد هنا على أنّ الشّعب العربيّ يتحمّل وحده مسؤوليّة ما هو فيه من تشرذم وضعف. فقد غيّب إرادته و تنازل عنها كي يعبث به تحالف البرجوازيّة و الإمبرياليّة. و محاولته تجميل نفسه عبر تقديمها في صورة الضّحيّة المظلومة، لا يمثّل سوى إمعانا منه في الميوعة. فلا يمكن لهذا الشّعب إلاّ أن يكون ضحيّة نفسه بعد إعتناقه لأخلاق العبيد المنتظرين لتوجيهات أسيادهم و أوامرهم إضافة إلى صفعاتهم.

في المقابل نجد أنّ تفعيل قانون القوميّة العربيّة يعيد تأسيس علاقة جدليّة بنّاءة بين العناصر الماديّة التّي يستلزمها الإبداع
الحضاريّ . و من حسن الحظّ أنّ هذه العناصر متوفّرة عبر أنحاء الوطن العربيّ . و هي لا تحتاج سوى لأن تتفاعل فيما بينها عبر تسخيرها في إطار برنامج موحّد لصالح كلّ الشّعب العربيّ دون تمييز ، بعد أن تزول الحدود السّياسيّة المانعة لهذا التّفاعل. هذه الإمكانات ( ثروات باطنيّة و مواقع ستراتيجيّة و موارد بشريّة) متى تضافرت يمكنها خلق حالة من القوّة القصوى لن تستطيع خلقها منفصلة. و هنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّه في صورة غياب هذا التّضافر يمكن لهذه الإمكانات أن تصبح عبءً على مجتمعاتها. و الواقع العربيّ يسجّل الآن أنّ أغلى ثروة يمكن أن تتباهى بها الأمم - وهي الثّروة البشريّة- أصبحت تمثّل بالنّسبة إلىالعديد من كياناتنا القطريّة مجرّد أرقام زائدة عن الحاجة، وهي مستعدّة لأن تلقي بها خارجا لعلّ الغير ينتفع بها. ّكما أنّ الموقع السّتراتيجي و الموارد الطّبيعيّة لبعض الأقطار الأخرى جعلها مجرّد ميدان لصراع نفوذ بين قوى الإمبرياليّة التّي تتّفق في النّهاية -رغم تضارب مصالحها- على ضرورة فعل أقصى المستطاع لإبقاء حالة الضّعف سمة لأصحاب تلك الثّروات الأصليّين.
إنّها ثروات أكبر من أن يمكن للكيانات القطريّة إحتواؤها و استغلالها. فهي لا تليق سوى بأمّة عظيمة تحسن توجيهها نحو أهداف حضاريّة سامية، لا كما تفعل هذه الكيانات القزميّة التّي حوّلت ثروات الشّعب إلى نقمة عليه.

. من جهة أخرى، فإنّ القوميّة العربيّة قادرة على أن تنقذ الشّعب العربيّ من العبث الوجوديّ الذّي طغى عليه و أفقده توازنه
. فمحاولة إعطاء صفات وهميّة لكلّ قطر تميّزه عن بقيّة الأقطار لم تنجح، و هو ما أدّى إلى نشوء غموض ثمّ فراغ على مستوى هويّة كل ّقطر.
و كانت الّنتيجة الأولى لذلك أن أصبحت هذه الأقطار مجالا رحبا لسيطرة ثقافيّة مارستها القوى الإمبرياليّة . مكمن الخطر في ذلك يتجلّى في كون السّيطرة الثّقافيّة تعني سلب الإرادة و تسهيل الإنقياد. و بذلك لم تعد الإمبرياليّة- في كثير من الأحيان- محتاجة إلى الضّغط الماديّ السّافر حتّى تمرّر مشاريعها الإستغلاليّة، بل تكتفي بتوجيه العقل العربيّ نحو التبنّي اللاّواعي لما تطرحه عليه من مسارات هي في النّهاية لا تخدم سواها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوميّة العربيّة ليست مشروع انغلاق و تحجّر و معاداة للآخر، بل هي عبر بعثها للشّخصيّة العربيّة الموحّدة ممثّلة في الأمّة العربيّة ، تمكّن الشّعب العربيّ من أهمّ شروط النِديّة و هي إمتلاك الهويّة الخاصّة و الواضحة التّي تستطيع تحديد مطالبها وفقا لمعاييرها الذّاتيّة. و بذلك فقط يتحوّل الخوض في علاقات التّبادل و التّفاعل مع المحيط الدّوليّ إلى منفعة و مصلحة ، لأنّه لن يكون وقوعا في فخّ التّبعيّة.
وأمّا النّتيجة الثّانية الأكثر خطورة من الأولى ، فهي بروز هويّات طائفيّة ستزيد -إن كتب لها الإستقرار- من تجزئة ما هو مجزّء أصلا. غموض الهويّة القطريّة المصطنعة لم يستطع مواجهة الفكر الطّائفيّ المتخلّف الذّي يسعى لأن يجعل من إعتناق المذاهب الدّينيّة هويّة في حدّ ذاتها. و إذا نظرنا إلى المكوّنات العقائديّة للشّعب العربيّ نستطيع توقّع عدد الهويّات الجديدة التّي ستبرزتباعا.
وحده قانون القوميّة العربيّة القادر على وأد محاولات التّجزئة الجديدة. فهو الضّامن للتّفاعل الدّائم و الخلاّق بين مختلف مكوّنات الشّعب العربيّ دون تمييز باستبعاده للمعايير العرقيّة و العقائديّة في تحديد الهويّة. فالقوميّة العربيّة ليست سنيّة أو شيعيّة أو مسيحيّة إنّها قانون إنصهار مكوّنات الشّعب العربيّ في بوتقة النّهضة الحضاريّة.

و قد يتساءل البعض عن الأسباب التّي تجعلنا نحصر دعوانا على العمل بقانون القوميّة العربيّة المؤدّي إلى بعث الأمّة العربيّة دون
تجاوز هذا الحدّ نحو العمل على بعث الأمّة الإسلاميّة بمفهومها الدّيني.

في البداية نرى من الضّروريّ التّأكيد على أنّ القوميّة العربيّة لا تتضارب مع الدّين الإسلاميّ في أيّ من معاييرها.فلا نعتقد أنّ
العمل على بعث الأمّة العربيّة يمكن أن يضرّ بالدّين في شيء.بل على العكس من ذلك تماما، فالإسلام بما هو مباديء إنسانيّة خالدة لا يمكن له أن يزدهر في غياب شخصيّة عربيّة موحّدة تكوّن نواته الصّلبة التّي يعتمد عليها ليتخلّص ممّا علق به من شوائب هي في النّهاية غريبة عنه و لا تجد مصدها سوى في مظاهر التّخلّف و الضّعف. و القوميّة العربيّة - بما هي قانون ينبذ العنصريّة بشتّى أشكالها و يسعى دائما للتّفتّح على كلّ المعاني الأنسانيّة الإيجابيّة- ستجد نفسها في مراحل مقبلة أهمّ عامل يقرّب الشّعوب الإسلاميّة و يدعمها لأنّها باعثة الأمّة العربيّة بما هي عمقهم السّتراتيجيّ الوفيّ و الثّريّ.
و لكنّنا بصدد تناول موضوع بعث أمّة تسعى لأن تقيم لنفسها أركان دولة موحّدة تمثّلها دستوريّا ،ستكون سندا لبقيّة الشّعوب الإسلاميّة عبر تسهيل التّحالفات المبدئيّة بينها دون إثارة لحساسيّات عنصريّة كانت قد أثارتها دولة الخلافة من قبل و لا نزال نعاني إنعكاساتها إلى اليوم. فالأمّة بمفهومها الدّينيّ تختلف عن مفهومها السّياسيّ. ذلك أنّ المفهوم الأوّل لا يقتضي ضرورة إقامة دولة تجسّده. مثل هذه الدّولة من شأنها عمليّا أن تضعنا أمام عوائق جمّة أهمّها إستحالة مراعاة الخصوصيّات الحضاريّة لمجموعات بشريّة ممتدّة من أقصى غرب إفريقيا إلى اقصى غرب آسيا مرورا عبر أوروبا. في إطار مثل هذه الدّولة سوف تشعر كثير من هذه المجموعات بالغبن نتيجة التّجاهل الأكيد لكثير من خصوصيّاتها حتّى و إن لم تكن تتعارض مع مباديء الأسلام. هذا الكمّ الهائل من الخصوصيّات لا يمكن لدولة أن تحتويه دون أن تجد نفسها في النّهاية مضطرّة لتغليب البعض منها على حساب الآخر لحسم الأمور. و هذا ما لا يمكن أن يتماشى مع مباديء الأسلام و التّي لا تقبل التّعايش مع مظاهر السّيطرة. و إعتمادا على ماسبق ، فإنّنا نرى أنّ إقامة دولة تضمّ كافّة الشّعوب الإسلاميّة سوف تعمّق من هوّة التّباعد بين المسلمين تماما مثلما حدث سابقا خصوصا زمن الخلافات الأمويّة و العبّاسيّة و العثمانيّة.

إنّ المناداة ببعث الأمّة العربيّة عبر إعادة تفعيل قانون القوميّة العربيّة ليست نتاجا لفكر رومنسيّ عمادته مجرّد الحنين إلى ماض مجيد. إنّها إصرار على نظرة للحاضر العربيّ تتّسم بالواقعيّة و نبذ اليأس . و الأكيد أنّ تفعيل هذا القانون ليس سهلا بالنّظر إلى المعوّقات الجمّة التّي تعترضه. و لكنّ مثل هذه المعوّقات ستفرض نفسها آليّا أمام كلّ محاولة للنّهضة و العبور من حياة التّخلّف و التّبعيّة إلى حياة الحضارة والرّيادة.و قد علّمنا التّاريخ الأنسانيّ أنّ الشّعوب التّي تخاف مواجهة علل واقعها قصد المحافظة على ما يمكن إنقاذه من شروط الحياة في حدّها الأدنى ، تجد نفسها في النّهاية و قد خسرت كلّ شيء ، فمن لا يتطوّر لن يبقى مراوحا مكانه بل سيتقهقربالضّرورةً.
المهمّ هو أن لا تبقى المناداة بتفعيل قانون القوميّة العربيّة خالية من تحديد الآليّات المجسّدة له. تحديد هذه الآليّات هو ما تهتمّ به النّظريّة القوميّة . و سيكون ذلك موضوع كتاباتنا القادمة.

ليست هناك تعليقات: