الخميس، أيلول ١٣، ٢٠٠٧

خطان ونهجان في الساحة الفلسطينية

د. إبراهيم علوش

منذ بدأت موجات الاستيطان اليهودي تتدفق على فلسطين خلال حكم السلطان عبد الحميد، تلخصت موضوعياً كل مسميات وتنظيمات وشخصيات العمل السياسي الفلسطيني في خطين ونهجين لا ثالث لهما: أحدهما يعبر عن مشروع مقاومة وتحرير، والآخر خياني معتدل.

وقد اصطدم كل من حاول أن يتذاكى بممارسة «الواقعية السياسية»، أو تكتيك «شق صفوف المعسكر المعادي» عن طريق تقديم تنازلات مبدئية، بقانون فولاذي لم يمر عام على الصراع العربي-الصهيوني، المستمر منذ أكثر من مئة عام، إلا وأعاد التأكيد على صحته، وهو قانون الصراع التناحري الذي لا يحل إلا بالعنف وإلغاء الآخر دموياً ومعنوياً.

وهو قانون ثبتت صحته، ليس بفعل قوى «التطرف» في معسكر الأمة بالمناسبة، بل بفعل طبيعة العدو الذي نواجهه، وطبيعة مشروعه ومخططه، بالرغم من «اعتدال» القيادات العربية فيما كان مشروع الطرف الآخر مشروعاً عدوانياً إحلالياً استيطانياً، ثم مشروعاً تفكيكياً، بعدما انتقل إلى مرحلته «الشرق أوسطية».

وقد قضى الحاج أمين الحسيني مثلاً حوالي عقدين وهو يجرب تحييد بريطانيا لكي يركز على مقارعة الحركة الصهيونية، وجاء ذلك بعد تخلي القيادات الفلسطينية عن مشروع عروبة ووحدة فلسطين مع بقية الأمة لمصلحة مشروع «أكثر واقعية» تحت واقع الانتداب هو مشروع الدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين المتكونة من العرب واليهود، وهو ما اعتقد بعض الفلسطينيين وقتها أنه أقرب لتفهم وإدراك ذلك الثقب الأسود المسمى «رأياً عاماً غربياً» الذي امتص ومضغ وبصق مصداقية أكثر من شخصية وقوة سياسية فلسطينية! حتى عاد واكتشف الحاج أمين استحالة التفاهم مع بريطانيا عشية ثورة الـ(36)، مع العلم أنه كان يمثل وقتها الجهة السياسية الأكثر إخلاصاً والتزاماً بالقضية الفلسطينية، مقارنةً بمعسكر آل النشاشيبي والأحزاب العربية الأخرى.

وأصبح من الواضح أن الإمبريالية البريطانية راعية المشروع الصهيوني وقابلته القانونية! وكان يفترض عند هذه النقطة أن يسمع ويفهم الدرس التاريخي من به صمم، وأن تشطب تماماً وللأبد أية سفاهة حول إمكانية التعايش مع اليهود في فلسطين، ضمن إطار دولتين أو دولة واحدة، ديموقراطية كانت أو ثنائية القومية، وأن تنتهي للأبد بعدها أية مراهنات حول إمكانية تحقيق الحد الأدنى من الحقوق العربية عبر «حل سياسي ترعاه القوى العظمى»، لولا وجود شريحة اجتماعية عربية وفلسطينية ترتبط مصالحها بقدرتها على التفاهم مع أعداء الأمة!

أما الباقي فتكرارٌ مملٌ للتاريخ المعاصر على هيئة مهزلة، وعملياً، ضاعت فلسطين عام 39 مع فشل ثورة الـ(36)، وليس عام 48، وكانت القيادات الفلسطينية قد ضيعت وقتاً ثميناً، والمشروع الصهيوني لا يزال غضاً وهشاً، على ترهات الحل السياسي والتفاهم مع بريطانيا بدلاً من الإعداد للثورة والقيام بمذابح جماعية بالمستعمرين اليهود تفهمهم بشكل لا يقبل اللبس أنهم غير مرحب بهم في فلسطيننا العربية، تماماً كما حدث مع المستعمرة اليهودية التي تأسست في جرش في شرق الأردن في نهايات القرن التاسع عشر في ظل حكم السلطان عبد الحميد أيضاً... عندما ذُبح كل سكانها في ليلة رائعة فتأجل بذلك تدفق الاستيطان اليهودي لشرق الأردن لأمد غير مسمى - فهو الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره أبداً - في الوقت الذي كان الوجهاء الفلسطينيون يكبحون فيه جماح الفلاحين وينشغلون بجمع التوقيعات لإرسال عرائض للباب العالي في تركيا للاحتجاج على السماح بموجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

باختصار، حماس الآن هي موضوعياً وريثة مشروع المقاومة والتحرير الذي ما برحت تتغير مسمياته منذ قرن دون أن يتغير مضمونه، والحقيقة أن محمود عباس يستحق الشكر لأنه أصدر قانوناً يحرم على أية قوة أو شخصية سياسية دخول انتخابات ما يسمى السلطة الفلسطينية دون أن تكون معترفة بـ«وثيقة الاستقلال» (أي معترفة بدولة «إسرائيل») وإلى ما هنالك من خيانات، فمثل هذا القانون يساعد على فرز الساحة بوضوح، بين معسكر مقاومة ومعسكر خيانة، وعلى قطع الطريق على حماس في العودة إلى مسار سياسي في ظل الاحتلال كاد يستهلكها في «الشرعية العربية والدولية» لولا «خطة دايتون» التي نحمد الله عليها أيضاً لنفس السبب، إذ إن التصدي الضروري لتلك الخطة هو ما أنقذ حماس من التحول لفتح أخرى في المدى المنظور بالرغم من شدة الحصار الرسمي العربي والدولي على غزة، لا بل بسببه ربما، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم.

فالفرز الواضح هو ما ينقص الساحة الفلسطينية، والتأرجح بين مشروعي المقاومة والتسوية هو ما بدد تضحيات المقاومين الغزيرة والغالية. والميوعة في الموقف السياسي عند قوى المقاومة هي الغطاء الذي يحتاجه التسوويون لكي يمارسوا التفريط ويصادروا الساحة السياسية باسم «الوحدة الوطنية الفلسطينية»، وبالتالي، إن أرادت حماس أن تحاصر حصارها وأن تعلي مقدارها وأن تكمل مشوارها، فإن عليها أن تطرح وتتبنى مشروعاً سياسياً لكل فلسطين، بدلاً من الإنكفاء في حدود غزة، وهذا المشروع ليس سوى مشروع المقاومة والتحرير، أي مشروع عروبة فلسطين، لا مشروع «الدولة» ولا مشروع الحوار مع التسوويين ولا من يحزنون.

ولكن مثل هذا المشروع يحتاج إلى أن تدرك حماس أن نقطة ضعفها الآن ما زالت تكمن في عدم قدرتها على استقطاب قوى حقيقية في المعسكر الوطني، داخل فتح وخارجها، قد تتوجس في حماس مشروعاًً فصائلياً ضيقاً للهيمنة على السلطة، أو مشروعاً أيديولوجياً ضيقاً في أحسن الأحوال، بينما المطلوب تاريخياً هو مشروع وطني مقاتل يستقطب كل المخلصين في صفوف الشعب العربي الفلسطيني، فليس المطلوب من حماس أن تقدم التنازلات للتفاهم مع قيادة السلطة، أو أن تسلم غزة لتلك الزمرة، بل أن تقنع غير الإسلاميين أنها ممثلٌ حقيقي لمشروع المقاومة والتحرير والعودة، فهل تستطيع حماس أن تنهض بتلك المهمة؟! .

نشرت في صحيفة السبيل الاردنيّة بتأريخ 11/9/2007

ليست هناك تعليقات: