الاثنين، أيلول ١٧، ٢٠٠٧

القومية العربية كمنقذ من تفكك الأمة

د. إبراهيم علوش

بات هناك شبه إجماع بين أصحاب الرأي الموضوعيين، ضمن معسكر الأمة وأعدائها، بأن المشروع الأمريكي-الصهيوني في بلادنا دخل مآزق مستعصية لا تخفى علاماتها على أي مراقب، وأن المقاومة العربية، أساساً في العراق، يعود لها الفضل في وقف تمدد نفوذ المشروع المعادي وإفشاله.

غير أن فشل المشروع المعادي لا يعني بالضرورة أن كل عناصره قد فشلت، فالفشل مفهوم نسبي كما النجاح، وإذا كانت عوامل الفشل قد فاقت عوامل النجاح في مشروع "الشرق أوسطية"، فإن علينا أن نقر بأن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بالرغم من عدم قدرتهما على السيطرة على الإقليم وفرض إعادة تشكيله استراتيجياً، وبالرغم من تقليم أظافر أدواتهما في العراق ولبنان وقطاع غزة، فقد نجحتا بجدارة بمقدار ما انتشر الوعي التفكيكي، الطائفي والقبلي والإثني، والقطري والمادون قطري عامة...

إذن يعيش المشروع الأمريكي-الصهيوني أزمةً مستعصية في بعده الأهم، أي البعد السياسي والعسكري، غير أنه حقق قدراً لا بأس به من النجاح في بعده الثقافي والاجتماعي. ونلاحظ شعبياً في أكثر من قطر عربي انتشار الوعي التفكيكي والتقوقع البائس باتجاه التمسك بوحدات اجتماعية أصغر فأصغر، وهو ما يصب مباشرة في خدمة مشروع "الشرق أوسطية".

وما شهده جنوب العراق من صراع دموي بين قوات جيش المهدي من جهة، وقوات بدر من جهة أخرى، على زعامة الطائفة الشيعية في العراق، هو التتمة المنطقية للوعي الطائفي الذي يبدأ بالتخلي عن الوطنية العراقية أولاً لمصلحة الطائفة. وتتكرر نفس الحالة في الصراع بين القبائل السنية في الوسط، وبين تنظيم القاعدة على زعامة الطائفة السنية. وهي حالة غير مقتصرة على العراق أبداً، فمع أن لبنان يعيش حالة استقطاب سني-شيعي اليوم، فقد سبق أن شهد بعض أشرس المعارك بين "الكتائب" من جهة، و"الأحرار" وغيرهم من جهة أخرى، على زعامة الطائفة المارونية، وذلك أن التخلي عن الرؤية الوطنية الواسعة لمصلحة المنطق الطائفي الضيق يطرح فوراً السؤال المنطقي التالي: من سيقود الطائفة، أو العشيرة، أو الجزء؟ وإن لم تتبنَ حماس مشروعاً وطنياً لتحرير كل فلسطين، وإن لم تعمل على حشد كل القوى على هذا الأساس، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، فإن سيطرتها على القطاع لن تخرج موضوعياً عن سياق الاقتتال على الجزء بغض النظر عن النوايا.

وفي المسألة الطائفية وشؤونها وشجونها فلنراجع التاريخ العربي المعاصر قليلاً: فحتى الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، لم يكن الغول الطائفي قد انطلق من عقاله بعد. ومن يراجع أدبيات الجماعات السلفية الجهادية في مصر يرى بوضوح مدى تأثرها بالثورة الإيرانية ومحاولتها إنتاج نسخة سنية لها. وقس على ذلك بالنسبة لغير مصر. فليس صحيحاً أننا أمة قبلية عشائرية منذ داحس والغبراء، وأمة منقسمة طائفياً منذ يوم صفين. لأن تاريخ كل الحركات الوطنية واليسارية والقومية في الوطن العربي الحديث قبل الثورة الإيرانية كان تاريخ النهوض من إرث القبلية والطائفية والهمجية الجاهلية بشكل عام. والحركة الناصرية والبعث واليسار بدورها لم تبنِ قواها على أساس طائفي أو عشائري إلا حيث وبمقدار ما تخلت عن مشروعها. وحتى الإسلام كان يمثل ثورة على الجاهلية، والجاهلية تعني فيما تعنيه العصبية القبلية، ولهذا رفع الإسلام شعار "إنما المؤمنون أخوة". وهذا الشعار يعني أن الأخوة في العقيدة أهم من الأخوة في الدم.

إذن النزعات الطائفية والقبلية تمثل بالضرورة عودة للوراء، إلى الجاهلية. فتاريخ التقدم في بلادنا هو تاريخ النضال ضد نزعات التفكيك القبلية والعشائرية والطائفية، أي تاريخ استقرار الدولة المركزية، فتاريخ التقدم في بلادنا هو التاريخ القومي الموحد، أما تاريخ التفكك فهو تاريخ القطر والطائفة والعشيرة، أي تاريخ التخلف.

وعندما تقدم محمد علي باشا من مصر باتجاه بلاد الشام والخليج العربي كان يرفع شعار دولة المواطنة، الدولة العربية المركزية، فحاربته العشائر والطوائف بالتعاون مع بريطانيا وتركيا العثمانية وقوى الهيمنة الخارجية لأنه كان يرفع شعار دولة المواطنة بديلاً لإقطاعيات الملل والنحل.

بيد أن النزعة الطائفية تنتج نزعة طائفية مقابلة، النزعة الطائفية الشيعية مقابل السنية وبالعكس، والمسيحية مقابل الإسلامية، والمارونية مقابل الدرزية، الخ... ثم نزعات تشظي داخل الطائفة ذاتها، ولذلك، فإن كل حزب يقوم على أساس طائفي أو عشائري أو عرقي، خاصة إذا كان ذلك جزءاً من منهجه الفكري، لا خروجاً عنه، لا يمكن أن يمثل مشروع نهضة للأمة. وحتى لو قامت قيادة ذلك الحزب بتوظيف مشروعها الطائفي في خدمة قضية وطنية مرحلياً، فإن ذلك يمثل شيئاً إيجابياً بدون أدنى شك ضمن الظروف الراهنة التي تراجع فيها المشروع الوطني والقومي، أما المشروع النهضوي العربي فلا يمكن أن يقوم على أساس طائفي أو عشائري بالرغم مما يقوله ابن خلدون.

ولا شك أن واجبنا كمواطنين عرب يتلخص بدعم وتأييد كل نقطة مقاومة وممانعة ليس فقط في الوطن العربي، بل في العالم بأسره، بالحدود الذي تمثل فيه نقطة مقاومة وممانعة، وأن ندعم حماس وحزب الله بقوة عندما يجاهدان العدو الصهيوني والقوى المرتبطة به، وأن ندعم طالبان عندما تقاوم حلف الناتو في أفغانستان، الخ... ولكن تلك القوى المقاومة بجدارة أثبتت أيضاً عدم قدرتها عن أن تكون أكثر من خط دفاعي في أحسن الأحوال (وأقل من مشروع نهضوي بالضرورة). وفي أسوأ الأحوال، باتت اعتباراتها الطائفية اليوم عائقاً أمام مقاومة الجزء الاجتماعي-الثقافي من مشروع التفكيك الأمريكي-الصهيوني نفسه، والدليل على ذلك طبعاً موقف حزب الله اللبناني في العراق، وإقصائية القاعدة بتكفيرها لقوى إسلامية مقاومة للاحتلال بدون أدني ريب، وبدرجة أقل بكثير طبعاً، عجز حماس حتى الآن عن استقطاب قوى حقيقية من غير الإسلاميين.

يبقى المشروع القومي بالتالي المشروع المرشح اليوم لإنقاذ الأمة من التفكك والضياع، والمشروع الرافض لكل أشكال الهيمنة الخارجية من الغرب أو الشرق، من أمريكا أو إيران، وهو بالضرورة مشروعٌ يكمن تناقضه الرئيسي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه، ويتمسك بالإسلام كجزء لا يتجزأ من ثقافته ووعيه، ولكن يدرك جيداً بأن الواقع المعقد لا يمكن فهمه والتعاطي معه إلا بأدوات العلم.

ليست هناك تعليقات: