الأحد، أيلول ٣٠، ٢٠٠٧

في تحالف القوميين والإسلاميين واليساريين في المرحلة الراهنة

د. إبراهيم علوش

تتميز التيارات الرئيسية الثلاث في الفكر والتاريخ العربي المعاصر، أي القومية والماركسية والإسلامية، عن التيار الليبرالي المتغرب، خاصة بصيغته ما بعد الحداثية المفتونة بالأقليات و"التعددية الثقافية"، أن التيار الليبرالي ينطلق من الفرد والخصوصيات الفردية في التعاطي مع الشأن العام، وأنه يجعل المنظور الفردي والظروف الخاصة النقطة المرجعية في الحكم على الأشياء وفي تقييمها، بينما تنطلق التيارات الإسلامية والقومية والماركسية، بالرغم من اختلاف مرجعياتها الفكرية عن بعضها البعض، من نقطة مرجعية اجتماعية أو جمعية أساساً، أي من متحد اجتماعي ما، سواء كان الأمة العربية بالنسبة للقوميين، أو الأمة الإسلامية بالنسبة للإسلاميين، أو الطبقة العاملة أو البروليتاريا العالمية بالنسبة للشيوعيين.

ومن الواضح أن ثمة تنوعات وأجنحة واتجاهات داخل كل تيار من هذه التيارات، فليس أياً منها كتلةٌ صماء متجانسة. ومن ناحية سياسية، لا يمكن اختزال كل الأجنحة ضمن أي من هذه التيارات إلى قاسم مشترك واحد، فشتان ما بين القاعدة مثلاً والحزب الإسلامي العراقي، وكلاهما إسلامي، أو ما بين القوميين الجذريين وقوميي الأنظمة، وكلهم قومي، أو ما بين الانشقاقات المختلفة وصراعاتها ضمن الأحزاب الشيوعية، وكلها ماركسية!!

إذن الحديث هنا عن المرجعية الأيديولوجية/ العقائدية، لا السياسية، للتيارات العربية اليسارية والقومية والإسلامية.. وفي المرجعية الأيديولوجية لتلك التيارات، نجد أن القاسم المشترك بينها أنها تنطلق كلها من أرضية جمعية، اجتماعية، تتجاوز الفرد، مقابل التيار الليبرالي، وامتداده الما بعد حداثي، الذي ينطلق من مركزية الفرد، ومن ثم من أولوية الخصوصيات.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية ونشوء الظروف الموضوعية لانفلات مشروع الأحادية القطبية، وبالأخص بعد تبني المحافظين الجدد لمقولة "صراع الحضارات"، وتركيز الهجمة على العرب والمسلمين، وبعد انبثاق مشروع العولمة الرأسمالية، وهجوم الشركات متعدية الحدود الضاري على الدولة والثقافة القومية عالمياً بنفس مقدار هجومها على الطبقة العاملة وإنجازاتها وعلى شعوب العالم الثالث، فإن الهجوم على الإسلام من منظور الإسلاميين، صار يصعب تمييزه من الهجوم على الأمة العربية من منظور القوميين، وكلاهما يزعم أنه هو المستهدف أساساً، وصار يصعب تمييز الهجوم على العراق والهجوم على أفغانستان، من منظور اليساريين حول العالم، من الهجوم المعولم على الإنجازات النقابية للطبقة العاملة العالمية وشعوب العالم الثالث!

وذلك أن الطرف القائم على ذلك الهجوم هو نفسه في كل الحالات، ولذلك لم يكن غريباً أن تسمع الشيخ أسامة بن لادن مثلاً يتحدث عن الشركات الكبرى التي تدير المؤسسة الإمبريالية وسياساتها، أو أن ترى برنامج التفكيك والهيمنة نفسه يستهدف 1) الهوية الحضارية و2) السيادة الوطنية و3) الثروات والأسواق المحلية، حيث قد يهتم الإسلامي بموضوعة الهوية أكثر، ويهتم الوطني والقومي بموضوعة السيادة والأرض والوحدة السياسية أكثر، ويهتم اليساري بخصخصة القطاع العام والإجحاف اللاحق بالعمال والمواطنين أكثر، دون أن يعني ذلك طبعاً أن أياً منهم يريد أن يفرط بالبنود الأخرى، لولا طريقة ترتيب الأولويات النابعة من المرجعية الخاصة لكلٍ من هذه التيارات، ولولا أن المعركة هنا لا يمكن فصلها عملياً عن المعركة هناك أو هناك، مثلاً: الدفاع عن نفط العراق، لا يمكن فصله عن الدفاع عن أرض العراق من الاحتلال، أو الدفاع عن وحدة العراق من التفكيك.

المقصود هو أن اللون الأيديولوجي للهجمة المعادية للعولمة، المختلط بالظل المحدد لمشروع المحافظين الجدد والكيان الصهيوني في بلادنا، قد رسم لوحةَ برنامجٍ تفكيكيٍ شامل ينطلق من: 1) أولوية حقوق الفرد مقابل حقوق الجماعة، 2) أولوية حقوق الأقلية بالحكم الذاتي أو الانفصال مقابل وحدة الوطن، 3) أولوية تكسير الرؤى الأيديولوجية والسياسية الكبرى، والقيم والمفاهيم الثقافية، والكليات "المتعسفة والمطلقة" بالتأكيد، من أجل إبراز الخصوصيات و"فردانية الحقيقة"، أو الحقيقة الذاتية ذات المرجعية الفردية.

ومضمون هذا البرنامج يبقى طبعاً تفكيك الأرض والإنسان والهوية لإنتاج المشروع "الشرق أوسطي" بكل أبعاده.

ولو كانت القضية قضية ديموقراطية فحسب، فإن التفسير السطحي (الغربي) للمصطلح، بمعنى حكم الأغلبية العددية، يمكن أن يتحقق من خلال تبني خيارات الكتل الكبرى في المجتمع العربي التي ترتبط بهوية حضارية واحدة، ورابطة قومية واحدة، وبمصلحة اقتصادية واحدة، ولكن لا! لأن المشروع المطروح أمامنا ليس حكم الأغلبية، بل الترويج للفردية، لليبرالية قاعدتها الفرد، وهي في أحسن الأحوال ليبرالية ديموقراطية Liberal democracy، كما يسمي علماء السياسة الأمريكيون نظامهم، أو ليبرالية غير ديموقراطية في حالتنا، أي تفكيك المجتمع الإسلامي أو الأمة العربية أو الطبقة العاملة إذا شئتم، إلى ذرات وجزيئات متفرقة، ومن ثم يأتي الحديث عن طموح ديموقراطي لأفراد لا يربطهم رابط حضاري أو قومي أو طبقي في وعيهم وأذهانهم، لأن هذا ما يحقق أفضل الشروط لنفاذ الشركات متعدية الحدود وهيمنة الحركة الصهيونية. فالقضية هنا ليست أنهم جميعاً يواجهون عدواً سياسياً آنياً واحداً فحسب، بل مشروعاً أيديولوجياً تفكيكياً واحداً يتهددهم و وجودهم جميعاً ووجود الأمة بالصميم.

وليست هذه دعوة لمحو الفروق بين التيارات الثلاثة، خاصة عندما يكون لكل منها متميزٌ يقدمه في الدفاع عن الأمة، ولكن ما سبق يفسر إلى حدٍ ما: 1) حالة التقارب والحوار الهادئ في بلادنا بين القوميين والإسلاميين أساساً، وبدرجة أقل اليساريين، منذ هجمة العولمة وبزوغ عهد القطب الواحد، 2) حالة التحييد النسبي للخلاف الأيديولوجي بين هذه التيارات لمصلحة تحديد الاصطفاف والتحالفات على قاعدة الموقف السياسي لا الأيديولوجي، 3) ولادة بعض الجبهات العريضة من مستقلين مخلصين للأمة قد ينتمون لتيارات أيديولوجية متعددة، 4) نشوء صراعات حادة ضمن كل تيار من هذه التيارات على أرضية الموقف السياسي لا العقائدي.

ولا يشذ عن قاعدة تحييد الاعتبار الأيديولوجي، دون نسيانه، لمصلحة إعطاء الأولوية للموقف السياسي في مواجهة الطرف الأمريكي-الصهيوني ومشروعه، إلا نوعين من القوى والشخصيات بصراحة: بعض الجماعات السلفية المغالية، وبعض الجماعات اليسارية المغالية، وكلاهما لا يعبر عن نفس الأمة.

ليست هناك تعليقات: