الاثنين، تشرين الأول ٠٨، ٢٠٠٧

دراسة حول القضية الفلسطينية ومخاطر الحلول الاستسلامية عليها


القرّاء الأعزّاء،

ننشر هذة الدراسة في المدوّنة لأهميّتها مع التحفّظ على بعض ما جاء فيها،

فمثلا لا يصحّ استخدام مصطلح "المدنيين الاسرائيليين" أوّلا لأنه لا توجد دولة شرعية - من المنظور القومي العربي - اسمها اسرائيل فيها مدنيون و غير مدنيّون، و ثانيا لأنّه يوحي بأنّه يجوز التمييز بين هؤلاء المستوطنين الغاصبين من حيث كون بعضهم أهدافا شرعية للمقاومة و ليس كلّهم.

و كذلك نود التنويه بأن لا شرعيّة الكيان الصهيوني و بطلان المزاعم التأريخية و غير التأريخيّة "لليهود" في فلسطين و عدم جواز الصلح مع الصهاينة المستعمرين
تحت أي ظرف كان، هو حكم قومي مبدئي قائم بذاته و ليس حكما شرعيا دينيا فحسب، و هو قائم على اعتبارات و حقوق قوميّة و وطنيّة غير دينيّة.

و نحن لا يجوز ان نجعل من بعض القرارات الدوليّة التي تأتي لصالحنا في هذه الحيثيّة أو تلك، و ليس في المحصّلة بطبيعة الحال، مدخلا لقبول "الشرعيّة الدوليّة"، كما تناولنا سالفا في أكثر من موضع.

- لجنة الاشراف على المدوّنة
----------------------


إعداد:الأستاذ طلعت "أبو عثمان" أبو حاشية
كاتب وباحث/الأردن

إن أول ما يجب التنبيه إليه أن الوجود الصهيوني - اليهودي في فلسطين هو حالة استعمار واغتصاب بالقهر والقوة، وليس نزاعاً بين بلدين متجاورين. وإن جوهر القضية أن القوى الكبرى (وبالذات بريطانيا وأمريكا ..) قد سعت متحالفة مع الصهيونية العالمية لإيجاد كيان يهودي في فلسطين - قلب العالم العربي والإسلامي - يمتلك آليات القوة والتوسع، ويكون سيفاً مسلطاً على رقاب العرب والمسلمين في المنطقة يمنع وحدتهم ويضمن ضعفهم وتخلفهم، ويحرمهم من شروط النهضة الحضارية، ويبقي منطقتهم مصدراً للمواد الخام وسوقاً للسلع الاستهلاكية الغربية ...

وبالتالي، فإن أي مشروع يطرحه الغرب أو الصهاينة - أو يمكن أن يقبلوه - لا بد وأن يشترط بقاء هذا الكيان اليهودي - الصهيوني وقوته وازدهاره. وهو بالتالي لن يكون عادلاً مهما حصل الفلسطينيون أو العرب والمسلمون من "مكاسب"، لأنها "لن" تضمن استعادة الفلسطينيين لكامل حقوقهم في أرضهم وسيادتهم عليها أو خروج الغاصبين المحتلين. ولذلك، فإن أي حل يمكن أن يقبل به الفلسطينيون والعرب والمسلمون سيكون حلاًّ مؤقتاً، وسيزول بزوال مسبباته (ضعفهم وقوة خصمهم)، ذلك أن عناصر التفجير ستبقى (الإيمان بفلسطينية وعروبة وإسلامية الأرض، والشعور بالظلم..). وكما أن اليهود لن يتركوا عقيدتهم في "أرض الميعاد"، وكما أن الغرب لن يترك أطماعه، فإن العرب لن يتنازلوا عن حقوقهم،كما أن المسلمين لن يتركوا إسلامهم. وعلى هذا فإن أية تسوية "عادلة دائمة" يجب أن تتم بناء على زوال الاحتلال واستعادة الحقوق كاملة، وإلا فإن نُذُر الحرب ستظل تلوح في الأفق.

ثانيا- لقد تمت هجرة اليهود إلى فلسطين قهراً ودون موافقة أهل البلاد، وتملكوا الأراضي قهراً، وأنشأوا مؤسساتهم العسكرية والمدنية والاقتصادية قهراً ... تحت الاحتلال البريطاني. وأقاموا الكيان الصهيوني سنة 1948 على 77% من أرض فلسطين قهراً. وكل التسويات السلمية لا تتحدث عن إزالة هذا القهر والعدوان، وإنما في أحسن الأحوال عن "قهر دون قهر"، بما يضمن إعطاء الشرعية لمعظم ما تم اغتصابه.

مشاريع التسوية السلمية 1948 - 1967:

كان القاسم المشترك لمشاريع التسوية في هذه المرحلة هو التعامل مع قضية فلسطين بوصفها قضية لاجئين، أي الشق الإنساني من الموضوع وليس السياسي. ففي 11 ديسمبر 1948 وبناء على مشروع بريطاني وافقت الأمم المتحدة على إصدار القرار 194 القاضي بوجوب السماح بالعودة للاجئين الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى بيوتهم في أقرب وقت ممكن، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى بيوتهم، وأن يتم تعويض أي مفقود أو مصاب بضرر من الجهة المسئولة عن ذلك. ويعني قرار العودة هذا أن:

1. العودة حق واجب التنفيذ.
2. وهي تتوقف على الاختيار الحر للاجئ.
3. وهي حق طبيعي وليس منّة من أحد.
4. ولا يجوز لأحد منع هذا الحق أو حجبه.
5. وأن عودته إلى وطنه هي عودة مواطن له كامل الحقوق المدنية والسياسية على ارض وطنه المحتل فلسطين.
ومن الجدير بالذكر أن قرار حق العودة هذا قد جرى التأكيد عليه سنوياً في اجتماعات الأمم المتحدة، وصدر أكثر من 110 مرات حتى الآن، مع رفض "إسرائيلي" مستمر لتنفيذه، ودون أن تتحرك الأمم المتحدة بأي خطوة عملية لإلزام الكيان الصهيوني به. وقد كان قد تم تشريد 800 ألف فلسطيني من أصل 920 ألف كانوا يسكنون المنطقة التي استولى عليها الصهاينة. ويبلغ عدد هؤلاء الفلسطينيين نحو خمسة ملايين و100 ألف تقريباً (حسب سنة 2001).

وفي الوقت نفسه لم يستطع الفلسطينيون إنشاء الدولة العربية الخاصة بهم، إذ قام الأردن بضم الضفة الغربية رسمياً إليه بتاريخ 11 إبريل 1950، كما قامت مصر بوضع قطاع غزة تحت إدارتها.

وقد تضمن القرار 194 نفسه مادة تنص على تشكيل لجنة توفيق ومصالحة بين الكيان الصهيوني والدول العربية. وتشكلت اللجنة من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، ودعت اللجنة في أواخر 1949 الكيان الصهيوني لقبول عودة 100 ألف لاجئ فلسطيني مقابل الحصول على صلح مع العرب، لكن الكيان الصهيوني رفض ذلك بشكل قاطع. وتعاونت الدول العربية مع لجنة المصالحة، لكن إصدار الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بيانها الشهير في 25 مايو 1950 بحماية الحدود "الإسرائيلية" القائمة (رغم أنها تحتل مساحة إضافية من فلسطين تقدر بحوالي 23%) كشف النوايا الحقيقية لهذه الدول، مما دفع الدول العربية لرفض مقترحات لجنة المصالحة المتعلقة بترتيبات التسوية مع الكيان الصهيوني. وقد عقدت اللجنة مؤتمراً في لوزان بسويسرا في 26 إبريل 1949 وكان الكيان الإسرائيلي تحت ضغط الحاجة إلى قبوله عضواً في الأمم المتحدة فوافق ووقع على "بروتوكول لوزان" الذي تضمن:

1. أن تكون الخريطة الملحقة بقرار تقسيم فلسطين هي أساس للمحادثات بشأن مستقبل فلسطين.
2. انسحاب "إسرائيل" إلى ما وراء حدود التقسيم.
3. تدويل القدس.
4. عودة اللاجئين وحقهم في التصرف بأموالهم وأملاكهم، وحق تعويض من لا يرغب بالعودة.

ولكن ما إن وافقت الأمم المتحدة على عضوية الكيان الإسرائيلي فيها حتى تنكرّت "إسرائيل" لاتفاقية لوزان، ورفضت تنفيذ شروطها. وقد عطَّلت "إسرائيل" أي عمل للجنة متعلقٍ بتنفيذ التقسيم أو عودة اللاجئين. وبدا واضحاً أن الموقف الصهيوني وجد هوى معلن لدى لجنة المصالحة التي تعمَّدت التقاعس وإماتة الموضوع، وافتقرت لأدنى درجات الجدية، وسكتت سكوتاً مريباً عن مصادرة الكيان الصهيوني لأراضي اللاجئين وأملاكهم. ومن الجدير بالذكر أن لجنة المصالحة هذه ظلَّت (من الناحية الرسمية) مشكلة لعشرات السنين، وظلّ تقرير الجمعية العامة للأمم المتحدة يأسف سنوياً لعدم تمكن هذه اللجنة من إيجاد الوسائل لتحقيق أي تقدّم بشأن عودة اللاجئين، ويطلب منها أن تبذل جهوداً متواصلة من أجل ذلك (مثلاً قرار ب3419 في 8 ديسمبر 1975).

وفي إطار التعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين أُنشئت "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين وتشغيلهم (الأونروا)" بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 الصادر في 8 ديسمبر 1948 وأخذ يتضح مع الزمن أن مزاج القوى الكبرى العام يتجه نحو إيجاد حلول اقتصادية لمصاعب الحياة التي يواجهها اللاجئون، وتوطينهم حيث استقروا أو في أماكن أخرى، وليس إعادتهم إلى أرضهم أو إعطائهم حقوقهم السياسية في الهوية الوطنية وتقرير المصير والاستقلال.

رؤية تحليلية للموقف العربي والفلسطيني و"الإسرائيلي" من التسوية

من خلال العرض السابق، لاحظنا أن إقبال الأنظمة العربية و م.ت.ف على المشاركة في عملية التسوية السلمية ينطلق أساساً من خلفيتين:

الأولى: حالة العجز العربي واختلال موازين القوى بما يجعل مستحيلاً في المدى المنظور تحرير فلسطين بالوسائل العسكرية.

والثانية: عامل الزمن، وشعور الأنظمة العربية أن الزمن لا يعمل لصالحها حيث يقوم الكيان الصهيوني ببناء الحقائق على الأرض، وأن الأولى إيقاف تمدُّد المشروع الصهيوني، وإنقاذ ما يمكن من أرض قبل فوات الأوان.

وقد يبدو هذا التفكير للوهلة الأولى منطقياً، لكن المشكلة الأساسية تكمن في التعامل مع العجز المؤقت باعتباره قدراً وعجزاً دائماً، وفي الاستسلام ابتداءً إلى مستقبل منهزم، فضلاً عن الحاضر المتردي. كما أنه تفكير لا يدرك تماماً حاجة العدو الصهيوني الماسة للتسوية لتجاوز العديد من أزماته ومشاكله. وهو تفكير يُعبِّر عن إشكالية غياب الإرادة، وغياب الرؤية لأدوات التغيير في المستقبل، كما أنه لا يستوعب دروس التاريخ التي انتهت عادة بإزالة الاستعمار والاحتلال ولو بعد مئات السنين، ما دام هناك شعوب لم تنس قضيتها ومستعدة للبذل في سبيلها. وهو يكشف في الوقت نفسه حالة الأنظمة العربية في الانكفاء القطري على مصالحها الخاصة، وفقدانها لاستراتيجيات مشتركة جادة في تحقيق الوحدة التي لن تقوم إلا بزوال الكيان الصهيوني، كما أن الكيان الصهيوني لن يزول إلا إذا خطى مشروع الوحدة خطوات كبرى. ويميط التدقيق في الموضوع اللثام عن الأزمة الداخلية التي تعيشها هذه الأنظمة. إذ إن الانتصار على المشروع الصهيوني يستدعي مشروعاً حضارياً، وحالة نهضوية عامة، لا يمكن أن تتكون بداياتها الأولى إلاّ بفتح أبواب الحريات للجماهير، والمشاركة الشعبية في الحكم من خلال مؤسسات "ديموقراطية" تستطيع أن تنتخب الكفؤ، وتحاسب المقصر وتعزله. ويأمن الناس على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم. وعند ذلك يمكن أن تعود الأموال المهاجرة والعقول المهاجرة ... ولا يمكن لهذا المشروع أن يستقيم إلا إذا توافق مع عقيدة الأمة وتراثها، بحيث يمكن أن يفجر فيها العزة والكرامة وروح التضحية والإبداع. وما دامت بعض الأنظمة مستندة إلى أقلية من المنتفعين ... فإن مشروع النهضة سيبقى معطَّلاً وبالتالي سيتعطل مشروع التحرير، وسيكون العجز والتسوية السلمية هو البديل الوحيد الذي تُلحُّ هذه الأنظمة على إقناعنا به.

كما لا بد من الإشارة إلى أن معظم الأنظمة العربية والإسلامية تعاملت مع قضية فلسطين ليس بوصفها قضيتها الأساسية المركزية، وإنما بوصفها قضية "جيران" تعرضوا للظلم ويحتاجون بعض الدعاء والمساعدة. وعلى هؤلاء "الجيران" أن يُقدِّروا "الضيافة"، وأن يعلموا أن للمساعدة حدوداً، فلا يستطيع هؤلاء تنظيم أنفسهم وتشكيل مؤسساتهم بحرية في تلك الأقطار، ولا يستطيعون إقامة قواعد عسكرية أو اختراق حدود بلاد الطوق العربي لتنفيذ عمليات المقاومة. والمشكلة هنا أن "النظام العربي" لا يشعر أن بيته هو الذي يحترق، وأن العدو انتهك حرمة منـزله. وهذا جوهر إشكالية النظام القطري في التعامل مع قضايا "الأمة". على أن الوجه الآخر للموضوع هو عدم إدراك الأنظمة العربية والإسلامية لطبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، والذي لم يستهدف الفلسطينيين فقط ولا فلسطين وحدها. إن احتلال المشروع الصهيوني لفلسطين هو مجرد ركيزة ومنطلق لإبقاء الأمة العربية والإسلامية ضعيفة مفككة يمنع وحدتها ونهضتها ويبقيها في دوائر التخلف والتبعية. لأنه يدرك تماماً أن قوة الأمة ووحدتها خطر أكيد على بقائه ويعني زواله عاجلاً أم آجلاً. وبالتالي فإن شرط نُموِّه وبقائه مرتبط بضعف الأمة وتفككها، كما أن وحدة الأمة ونهضتها مشروطة بإنهاء هذا المشروع وزواله.

وفي الجانب الفلسطيني يتنازع الفلسطينيين تياران أساسيان تجاه التسوية، الأول هو تيار القيادة المتنفذة في م.ت.ف وتدعمه أساساً حركة فتح وهو يدعم مسار التسوية واتفاقات أوسلو، والثاني هو تيار المعارضة الفلسطينية . وفي مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة يكاد التياران يتناصفان الدعم الجماهيري. أما في خارج فلسطين حيث يوجد أكثر من نصف شعب فلسطين، والذي ستحرمهم أية تسوية سلمية من حقهم في العودة إلى وطنهم، فإن هناك مؤشرات على رفض الغالبية لاتفاقيات أوسلو وما ينبني عليها.

غير أنه ينبغي التفريق بين قبول الفلسطينيين للتسوية السياسية كحل مرحلي هو أفضل ما يمكن تحصيله في الظرف الراهن، وبين إيمانهم بحقهم المطلق في فلسطين من نهرها إلى بحرها، وإيمانهم بضرورة زوال الكيان الصهيوني. بمعنى أن الأغلبية الساحقة للفلسطينيين غير مقتنعة "بعدالة" التسوية السياسية أياً كانت، ولا مقتنعة بأن هذا الحل هو حل "دائم". وعلى سبيل المثال فعندما كانت اتفاقية أوسلو تعيش أفضل أيامها في البداية مع وعود الرخاء وانسحاب المحتلين وإقامة الدولة الفلسطينية فإن أكثر الذين عبأوا استطلاعاً للرأي العام حول موقفهم من اتفاق أوسلو أبدوا موافقة عليه (نحو 55%). وأجاب نفس الذين عبأوا هذا الاستطلاع على سؤال آخر حول إيمانهم بحقهم في فلسطين المحتلة سنة 1948 (الأرض التي قام عليها الكيان الصهيوني، والخارجة عن دائرة التفاوض أصلاً) فأجاب 86% بأنهم يؤمنون بحقهم فيها. مع العلم أن الذين قاموا بالاستبيان كانوا من مؤسسات تدعمها م.ت.ف التي تبنت التسوية.

وبالنسبة للشعب الفلسطيني فإن كلمة "الحل العادل والدائم" التي تُطرح عادة في كل مشاريع التسوية، تصبح مصطلحاً عبثياً يفقد دلالته الحقيقية. فهل يستطيع أحد أن يقنع 4.8 ملايين لاجئ فلسطيني خارج فلسطين بأن الحل العادل الدائم يكمن في توطينهم حيث هم، وفي ترك أرضهم لليهود الصهاينة؟! وفي أن للصهاينة حقاً في 77% من أرض فلسطين لينشئوا عليها دولتهم لقد أشارت استطلاعات الرأي العام التي أجريت مؤخراً وسط اللاجئين الفلسطينيين أن 98% منهم يرفضون التنازل عن حقهم في العودة إلى الأرض المحتلة عام 1948، ويرفضون التوطين أو التعويض. وفوق ذلك من يملك أن يقنع العرب بالتخلي عن عروبة فلسطين؟ ومن يملك أن يقنع المسلمين بالتخلي عن إسلاميتها وقدسيتها؟

إن إشكالية التسوية تكمن في أنها تحمل بذور فشلها في ذاتها، وتحمل عناصر تفجيرها في بنودها. وستبقى مسألة الأرض وهويتها، ومسألة العودة، ومسألة القدس ... تضطرم في النفوس وستظل تتفجر بين آن وآخر لتؤكد أن "السلام" غير عادل ولا دائم.

وقد أفرزت انتفاضة الأقصى واقعاً جديداً وحَّد مختلف التيارات الفلسطينية (بما فيها فتح) حول برنامج المقاومة. واكتسب خيار الجهاد مصداقية وشعبية متزايدة، ووصل الأمر إلى أن يزيد عدد مؤيدي العمليات الاستشهادية (حتى وإن كانت ضد المدنيين الإسرائيليين) في استطلاعات الرأي العام المحايدة في الضفة والقطاع إلى نحو 80%. وقد وضعت الانتفاضة مشروع التسوية في مهب الريح. وإذا كان هذا المشروع يمشي على عُكَّازين في السنوات الماضية، فقد بدا عاجزاً حتى عن استخدام العكازان!!

أما في الجانب "الإسرائيلي" الصهيوني فإن الرغبة في التسوية السلمية ترتكز أساساً على قضية جوهرية تؤرِّق قادته وهي التحول إلى كيان سياسي "طبيعي" في المنطقة. وتحويل النظرة إلى الكيان الصهيوني من كيان "سرطاني" وخطر يجب استئصاله، إلى "ظاهرة صحية" طبيعية. لأن الجانب الصهيوني يدرك تماماً أن لا مستقبل له في المنطقة دون ذلك. وأنه ما دامت حالة العداء موجودة وما دامت المعركة معركة أجيال متواصلة، فإن العرب والمسلمين سيملكون يوماً ما - مهما طال - أدوات القوة والدمار الشامل، كما لن تبقى الظروف السياسية العربية والإسلامية والدولية على حالها إلى الأبد، وبالتالي فإن هذا الكيان سيبقى مهدداً بالزوال لحظة تغير موازين القوى.

لقد دفع هذا الشعور رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ناحوم جولدمان
N. Goldman (1956 - 1968)
، وهي المنظمة التي أنشأت الكيان الصهيوني إلى القول "لا يوجد لإسرائيل مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب". بل واعترف أن بن جوريون (الذي قام على أكتافه إنشاء الكيان الصهيوني، وكان أول رئيس وزراء له والشخصية الأولى فيه حتى نحو 1963) قال له سنة 1956 إن الدولة اليهودية ستستمر في العشر أو الخمس عشر سنة القادمة ولكن احتمالات وجودها بعد ذلك هي 50%. وعلى هذا فإن الجانب الصهيوني بحاجة ماسة إلى تسوية تضمن بقاءه. وأفضل وقت يمكن عقد تسوية فيه هو هذا الوقت الذي اجتمعت فيه خمسة عناصر قلما تجتمع في ظرف تاريخي واحد وهي:

1. قوة الكيان الصهيوني بحيث يستطيع هزيمة البلاد العربية مجتمعة.
2. قوة النفوذ اليهودي الصهيوني الدولي، وبلوغه درجة كبرى من العلو في الأرض، تمكنه من الضغط والتأثير على القرار السياسي في الولايات المتحدة ومعظم الدول الكبرى.
3. وقوف الدولة الأقوى في العالم "الولايات المتحدة" مع الكيان الصهيوني، وتحالفها الاستراتيجي معه. وخضوع العالم حالياً لوضع "أحادي القطبية" بقيادة الولايات المتحدة وحدها.
4. حالة ضعف وعجز وانهزام عربي وإسلامي عام.
5. إن م.ت.ف وهي الطرف الذي يمثل الفلسطينيين قد دخلت بقوة في مشروع التسوية، وقبلت بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وحقه في العيش ضمن حدود آمنة على 77% من أرض فلسطين التاريخية.

لكن الصهاينة ينقسمون إلى مدرستين تجاه التسوية السلمية، وشكل تحقيقها:

المدرسة الأولى: مدرسة حزب العمل ومن يدور في فلكه، وهو الحزب الذي قام على عاتقه إنشاء الكيان الصهيوني وقيادته حتى سنة 1977 (ثم تداول القيادة مع الليكود). وهي مدرسةٌ تركز على الحفاظ على الطابع اليهودي للكيان الإسرائيلي، وتسعى بشكل أكبر إلى التحول إلى كيان طبيعي في المنطقة. هي بالتالي لا تضع في هذه المرحلة عملية التوسع الجغرافي على رأس أولوياتها، لأنها تدرك أن ضم أراضي جديدة يسكن عليها ملايين العرب، في الوقت الذي نضبت فيه ينابيع الهجرة اليهودية ... سيؤدي إلى فقدان الكيان هويته اليهودية، كما سيشغله بمصاعب أمنية واقتصادية كبيرة، ولذلك تسعى هذه المدرسة لتحقيق مخططها الصهيوني في هذه المرحلة من خلال الهيمنة الاقتصادية على المنطقة، وتحولها إلى كيان طبيعي من خلال إيجاد أوضاع سياسية وثقافية وإعلامية وأمنية تخدم مثل ذلك التصور. والمنظِّر الرئيسي له الآن هو شمعون بيريز الذي طرح أفكاره من خلال كتابه "شرق أوسط جديد".

المدرسة الثانية: مدرسة حزب الليكود، وهو الحزب الذي يتداول السلطة مع حزب العمل منذ 1977 (بيغن - شامير - نتنياهو - شارون ..). وهي مدرسة تمجِّد استخدام القوة، وتؤكد على فكرة الحدود التاريخية للكيان الإسرائيلي. وكان مؤسس الحزب ورئيسه بيغن يقول "أنا أقاتل، إذن أنا موجود"، وهو وحزبه يَعدَّان الأردن أرضاً إسرائيلية محتلة. ومع ذلك فإن هذه المدرسة مستعدة للتعاطي مع العمل السياسي وفق ما يخدم المصلحة الإسرائيلية تكتيكياً. لكن هذه المدرسة لا تثق بأن العرب والمسلمين سيتحولون يوماً ما إلى أصدقاء، وهي ليست مطمئنة إلى فكرة التحول إلى كيان طبيعي، وإن كانت ترغب بذلك. كما أنها لا ترى في ظلِّ الأوضاع وموازين القوى التي تمثل إلى صالحها بشكل صارخ ما يجبرها على تقديم تنازلات للفلسطينيين والعرب. وترى أن الأفضل هو العمل الحثيث على استجلاب مزيد من اليهود وتهويد للضفة والقطاع، وبناء حقائق على الأرض يستحيل التنازل عنها، وخلال ذلك الزمن إما أن يستجيب العرب والفلسطينيون للتصور الليكودي للتسوية (حكم ذاتي على السكان وليس على الأرض)، أو أن يكون قد تم تهويد الأرض. كما يأمل بعض المحسوبين على هذه المدرسة بتحقيق تهجير طوعي أو قسري للفلسطينيين من الأرض المحتلة سنة 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة ... وبذلك "يحلّون المشكلة من جذورها" ويجيبون على مسألة تحدي بقاء الدولة اليهودية.

وعلى ذلك، فإن إشكالية التسوية عند الصهاينة مرتبطة بعملية المزاوجة بين مثلث:

1. الحفاظ على الأمن.
2. والحفاظ على الأرض.
3. والحفاظ على الهوية اليهودية للدولة.

وقد تختلف أضلاع المثلث وزواياه عند جهة دون أخرى بناء على ترتيب الأولويات أو تحليل الأمور. لكن هناك قواسم مشتركة بين كافة الأطراف الصهيونية من أقصى يمينها إلى أقصى شمالها:

1. لا تنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948 أي نحو 77% من أرض فلسطين.
2. لا لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأرض المحتلة عام 1948، لأنه يعني عملياً فقدان اليهود للأغلبية السكانية وفقدان المشروع الصهيوني لأساس تكوينه، وهو بناء الدولة اليهودية. (اللاجئون الفلسطينيون الذين ينتمون إلى مدن وقرى وبادية الأرض المحتلة سنة 1948 يقدرون بخمسة ملايين ومائة ألف حالياً، فلو عاد هؤلاء وانضموا إلى إخوانهم المليون و150 ألف فلسطيني لا يزالون يعيشون تحت حكم الكيان الإسرائيلي في أرض الـ1948 لأصبح عددهم أكبر من المجموع الكلي لليهود في فلسطين. إذ يقدر عدد اليهود في فلسطين المحتلة بخمسة ملايين حسب إحصاءات سنة 2000).
3. لا تزال الأغلبية الساحقة لكافة التيارات الصهيونية ترفض التنازل عن السيادة عن القدس الشرقية، وخصوصاً منطقة المسجد الأقصى، باعتبارها "جبل المعبد".
4. توافق كافة الأطراف الصهيونية أن الدولة الفلسطينية إذا ما قامت في الضفة والقطاع فيجب ألا تكون مكتملة السيادة بالمفهوم المتعارف عليه سياسياً ودولياً، كأن تكون منـزوعة من السلاح الثقيل، وأن تضمن الأمن الصهيوني من جهتها.
5. وأن على العرب والفلسطينيين الذين لا تعجبهم القواسم الصهيونية المشتركة، أن يبحثوا عن حل غير التسوية السلمية. وقد يوافق الصهاينة على عودة رمزية لنسبة ضئيلة من اللاجئين، وقد يوافقون على بعض الترتيبات الحدودية بتبادل بعض الأراضي، بشرط ألا يغير ذلك من جوهر الأوضاع.

وقد انعكست مفاوضات كامب ديفيد (يوليو 2000) وانتفاضة الأقصى (منذ 28 سبتمبر 2000) على مزاج المجتمع الصهيوني تجاه التسوية. إذ ظن "الإسرائيليون" أنهم قدموا أفضل ما لديهم في المفاوضات "دونما فائدة"، وأدت حالة "الإحباط" هذه إلى تزايد الشعور بأن الفلسطينيين لا تنفع معهم سوى لغة القوة. وقوَّت الانتفاضة هذه المشاعر فانزوى ما يسمى بتيار "معسكر السلام" الإسرائيلي، بل وأظهرت الكثير من رموزه عنفاً وتطرفاً وشراسة كبيرة. وتمكن تيار الليكود من الفوز بانتخابات رئاسة الوزراء بأغلبية تاريخية لم يسبق لها مثيل (بفارق 25.7%) وظلت إلى الآن استفتاءات الرأي العام تدفع باتجاه الخيار الأمني، واستخدام وسائل أكثر وحشية وعنفاً.

وما يهمنا الإشارة إليه هنا الآن هو أن التيار المعادي للتسوية السلمية، وفق الحد الأدنى الفلسطيني، بل ووفق الحد الذي طرحه حزب العمل هو تيار واسع قوي يمكن أن يتسبب في إسقاط التسوية أو تعطيلها، وهو ليس تياراً معارضاً بعيداً عن السلطة، وإنما هو تيار يشارك في الحكم بل وينفرد به أحياناً عديدة، كما حدث خلال الخمس وعشرين سنة الماضية. وبالتالي فهو ليس مجرد تيار معارض يمكن قمعه وإسكاته كما يحدث في بلادنا العربية.

إن سلوك المجتمع الصهيوني النفسي العام يتأثر أساساً بقضيتين أو عقدتين اثنتين:

الأولى: الأمن.
والثانية: الوضع الاقتصادي.

ولا شك أن هناك عوامل أخرى تلعب دورها كالجوانب الدينية والتاريخية. لكن عقدتا الأمن والمال هما جزء من التكوين التراثي الديني التاريخي اليهودي نفسه. وقد أشار إلى جانب منهما القرآن الكريم، إذ قال تعالى: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة يود أحدهم لو يعمَّر ألف سنة ..."، وذكر الله تعالى قول اليهود: "إن الله فقير ونحن أغنياء".

وهاتان القضيتان لهما دورهما الجوهري في صناعة الرأي العام "الإسرائيلي"، وفي صناعة القرار السياسي، وفي سلوك الفرد "الإسرائيلي" العادي. وعادة ما يتعامل المجتمع الصهيوني مع مشروع التسوية حسب ما يمكن أن يوفر له من أمن ومنافع. ولذلك فإنهم عندما تعاملوا مع السلطة الفلسطينية كان كل شيء مرهوناً بما يمكن أن توفر لهم السلطة من أمن من خلال تولي مهمة قمع المعارضة الفلسطينية ومنعها من مواصلة الكفاح. ولم يتعاملوا معها بروح الشريك السياسي المكافئ، بقدر ما أرادوا التعامل معها كوكيل يتولى تنفيذ "المهام القذرة" بالنيابة معها. ولذلك عندما اندلعت الانتفاضة ارتفعت الأصوات بوجوب تغيير ياسر عرفات واستبداله، وكأنما هو موظف لديهم، وليس باعتباره شخصاً آخر يمثل شعباً آخر.

إن فكرة المشروع الصهيوني نفسه قائمة على إقناع اليهود بتوفير الأمن لهم والذي فقدوه بسبب ظهور المشكلة اليهودية في شرق أوربا، وتداعيات اضطهاد الزعيم الألماني هتلر لهم. ولأن "رأس المال جبان" فإن المشاكل الأمنية تؤدي عادة إلى أزمات اقتصادية، وهروب المال وأصحابه طلباً للسلامة. وهذا يُفسر جانباً من الهجرة اليهودية المعاكسة إلى أوربا وأمريكا بأعداد ضخمة إثر اندلاع انتفاضة الأقصى.

وعلى ذلك فإن السلوك "الصهيوني" يتجه عادة إلى التشدد والتصلب والقسوة في أثناء الأزمات في سبيل المحافظة على الأمن. لكنه لا يستطيع تحمُّل مشاكل وتحديات أمنية حقيقية ودائمة. وهذا ما يفسر قسوته في الرد لمحاولة حسم الأمور بسرعة. لكن المقاومة إذا صبرت وصمدت واستمرت في ضربها الموجع بحيث جعلت التكاليف "الإسرائيلية" أعلى من المكاسب، فإنه سيرتد ليحاول أن يجد الأمن في التسوية أو الانسحاب بعد أن فشل في إيجاده عبر آلة الحرب. وطبيعة المجتمع الصهيوني لا تميل إلى التضحية والموت في سبيل المبادئ، ولا تتحمل الخسائر البشرية كثيراً. ونقطة الضعف هذه لديهم، هي نقطة القوة لدى العرب والمسلمين. وهي التي أدت في النهاية إلى انسحاب الكيان الصهيوني من جنوب لبنان دون قيد أو شرط.

وبشكل عام، فمن المتوقع أن يستمر "المجتمع الإسرائيلي" على تشدده وأن تستمر السياسيات الحكومية "الإسرائيلية" على تصلبها وفظاظتها، طالما لا تزال موازين القوى تميل إلى صالحها، وطالما لم تفقد أملها في سحق الانتفاضة. ولذلك فإن قدرة الانتفاضة على الاستمرار ستؤدي إلى سقوط أولمرت وسقوط الخيار الأمني الإسرائيلي. لكن القيادة السياسية الفلسطينية والعربية - على الأغلب - لن تستثمر ذلك باتجاه مشروع تحرير، وإنما باتجاه تسريع مشروع التسوية نفسه وفق ظروف أفضل بالنسبة لها.

انعكاسات مشروع التسوية على المنطقة

حقق المشروع الصهيوني نجاحاً كبيراً عندما عقد اتفاقية التسوية مع مصر أكبر وأقوى البلاد العربية، حيث تمكن من تحييدها وعزلها لسنوات عن محيطها العربي، مما هيأ له فرصة الاستفراد بشكل أفضل في تنفيذ مشروعه في المنطقة، فتضاعفت وتيرة الاستيطان والتهويد في الضفة والقطاع، وتم ضرب البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في لبنان. في الوقت الذي نحَّى فيه العرب جانباً الخيار العسكري مع خروج مصر من المعركة.

على أن توقيع قيادة م.ت.ف على اتفاقات أوسلو (1993)، وتوقيع الأردن على اتفاقات وادي عربة (1994) قد أدخل المنطقة في أوضاع جديدة. وبدا أن الكيان الصهيوني أخذ بالتحول إلى كيان طبيعي في المنطقة ... بينما أخذت تتصاعد وتيرة التطبيع وفتح العلاقات العربية والإسلامية مع الكيان الصهيوني. ولولا أن المقاومة الفلسطينية قد استمرت تحت قيادة المعارضة الفلسطينية، ولولا أن الصهاينة قد استمروا في عنجهيتهم وإرهابهم وتسويفهم، ولولا أن انتفاضة الأقصى قد تفجرت، ولولا أن الشعوب العربية والإسلامية لا تزال ترفض بقوة التعامل مع الكيان اليهودي - الصهيوني … لولا ذلك لربما سار التطبيع مسيرة كبيرة.

إنه إن قُدِّر لهذا المشروع النجاح وفق التصور "الإسرائيلي" - الأمريكي فإنه سيكون له انعكاسات خطيرة على المنطقة العربية والإسلامية ونظهر هنا أبرز الآثار:

فمن الآثار السياسية للتسوية:

- تسويق الكيان الصهيوني ككيان طبيعي في المنطقة، له حق العيش ضمن حدود آمنة، أي حصول الكيان على "شرعية" فلسطينية - عربية.
- تكريس حالة التجزئة والقطرية والضعف في العالم العربي، وهي حالة لا يمكن أن يستمر الكيان الصهيوني بدونها.
- إسقاط قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بفلسطين كقرار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم المحتلة عام 1948.
- زيادة التوتر داخل الصف الفلسطيني، حيث توجد معارضة قوية واسعة للتسوية.
- قمع كافة الحركات القومية والإسلامية والوطنية المعارضة للتسوية في البلاد العربية، وقطع الطريق عليها للوصول إلى الحكم وفق الطرق الدستورية.
- وهذا، سيؤدي تراجع مسار "الديموقراطية" والحريات في العالم العربي، مما سيحدث حالة احتقان وأزمات داخلية كبيرة.
- هناك مخاوف كبيرة حقيقية من أن تمارس "إسرائيل" دور شرطي المنطقة الذي يحمل عصاه الغليظة لكل من يخرج عن "الطاعة".
- هناك احتمالات كبيرة أن تستمر البلاد العربية تدور في فلك التبعية للقرار السياسي "الإسرائيلي" - الأمريكي - الغربي.
- توفير ظروف أفضل للهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة حيث الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.
وفي الجانب الاقتصادي:
- سيستفيد الكيان الصهيوني من القدرات المالية الهائلة والإمكانات الاقتصادية التي لديه في محاولة السيطرة على اقتصاديات المنطقة.
- ستنتهي المقاطعة الاقتصادية العربية - الإسلامية للكيان الصهيوني التي كلفته عشرات المليارات من الدولارات.
- ستوفر أجواء التسوية فرص نمو اقتصادي أفضل للكيان "الإسرائيلي" وهذا ما حدث فعلاً خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين إذ قفز الناتج القومي "الإسرائيلي" من 15.3 مليار دولار أمريكي سنة 1983 إلى 105.4 مليار سنة 1999، وارتفع دخل الفرد "الإسرائيلي" إلى 18.300 دولار أمريكي ليشكل أحد أعلى الدخول في العالم.
- سيقوم الكيان الصهيوني بالاستثمار الاقتصادي في المنطقة حيث هناك عمالة أرخص، وشركات غير قادرة على المنافسة، مما يفتح المجال إلى مزيد من الأرباح. وسيكون أقدر على الإضرار بالاقتصاد المحلي لأي دولة عن طريق ضرب الأسعار أو السحب المفاجئ للأموال أو طرد العمال وغير ذلك. وهناك أخبار كثيرة عن نتائج سلبية ومأساوية أحياناً للتعاون الاقتصادي مع الكيان الصهيوني، فقد تحدثت تقارير عديدة عن دمار في محاصيل القمح والقطن المصرية باسم استخدام بذور مستوردة من الكيان الإسرائيلي كما حدث دمار مماثل في محاصيل الطماطم في المغرب للسبب نفسه.

وفي الجانب العسكري والأمني:

- تعمل الدول العربية - وعملت - على منع استخدام أراضيها كقواعد للعمل الفدائي، ومنع أي عمليات فدائية عبرها، وعلى حماية الحدود "الإسرائيلية" من جهتها.
- تحقيق الهيمنة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، ومنع الدول العربية من تطوير قدراتها العسكرية.
- تسهيل النشاط التجسسى "الإسرائيلي" في البلاد العربية تحت غطاء السفارات والسياحة والوفود وغيرها.

وفي الجانب الثقافي:

- إعادة النظر في مناهج التدريس، وحذف الآيات والأحاديث والمواد الدراسية المعادية لليهود والكيان الإسرائيلي (وقد حدثت العديد من المراجعات فعلاً).
- منع المواد الإعلامية والثقافية التحريضية وخطب الجمعة الموجهة ضد اليهود والكيان الصهيوني.
- استخدام وسائل الإعلام والثقافة لتقديم صورة إيجابية عن اليهود والكيان الصهيوني.
- التوقف عن تدريس قضية فلسطين، وعدم الإشارة إلى فلسطين بحدودها التاريخية. وتقديم "إسرائيل" بدلاً عنها ككيان جغرافي مجاور.
- إلغاء روح الجهاد، وإضعاف روح المقاومة والتضحية واعتبارها إرهاباً.
- فتح المجال للمواد الثقافية اليهودية والرؤى الصهيونية لغزو عقول العرب والمسلمين.
وفي الجانب الاجتماعي:
- استجلاب الكتب والدوريات والبرامج والأفلام الإسرائيلية الصهيونية التي تحمل في جنباتها الكثير من الفساد والتحريض على الرذيلة.
- ظهرت الكثير من الدلائل على قيام المخابرات "الإسرائيلية" بتعمد ترويج المخدرات في مصر وغيرها.
- ظهرت العديد من الدلائل على تعمد الصهاينة إرسال شبكات فساد إسرائيلية من العاهرات وبائعات الهوى بقصد إفساد القيم في المجتمع المصري والأردني (اللذين وقعا معاهدتا سلام). كما كشفت حالات تعمد نشر مرض الإيدز، حيث اعترفت عدد من الفتيات اليهوديات بتجنيد الموساد لهن بعد إصابتهن بالإيدز، حيث تم إقناعهن بالذهاب إلى الأندية الليلية ونشر الإيدز باعتباره خدمة قومية للكيان الإسرائيلي، وقد نشرت مجلة المجلة السعودية تحقيقاً عن هذا الموضوع.
- تشجيع وتمويل الرحلات واللقاءات الشبابية المختلطة بين الجنسين من عرب ويهود، نشراً للفساد، وتجنيداً للشباب في "الموساد" الإسرائيلي.

الحكم الشرعي للتسوية السلمية مع الكيان "الإسرائيلي"

تؤكد معظم فتاوى العلماء المسلمين الموثوقين على حرمة التسوية السياسية مع الكيان الإسرائيلي، وقد كان هناك حالة إجماع على إصدار مثل هذه الفتاوى من العلماء المسلمين المشهورين سواء كانوا رسميين أو غيرهم، وقد استمر ذلك حتى سنة 1977 عندما قام السادات بزيارة إلى الكيان الإسرائيلي حيث صدرت بعض الفتاوى الرسمية من بعض المؤسسات المصرية لدعم موقفه في ضوء المعارضة الشعبية الواسعة في معظم أرجاء العالم الإسلامي. وبشكل عام لجأت الأنظمة لتبرير مواقفها السياسية لتحصيل فتاوى من علماء موظفين لديها. غير أن التيار العام لعلماء المسلمين غير المرتبط بالخوف على الوظيفة والمصلحة استمر في تأكيد تحريم التسوية السلمية إلى وقتنا هذا.

وقد صدرت مئات الفتاوى بهذا الصدد منذ قرار الأمم المتحدة إنشاء الكيان الإسرائيلي. وتحمل الفتاوى عادة نفس المضامين الأساسية دونما أي اختلاف جوهري. وأبرز هذه المضامين:

1. إن فلسطين أرض عربية إسلامية.
2. فلسطين ملك للأجيال العربية وليس لأحد حق التنازل عنها كائناً من كان.
3. الجهاد هو طريق التحرير.
4. اليهود الصهاينة معتدون غاصبون، ولا يجوز إقرار الغاصب على ما اغتصبه.
5. ضرورة إعادة القضية إلى هويتها العربية والإسلامية، وتعبئة طاقات الأمة باتجاهها.

ومن نماذج الفتاوى، الفتوى التي أصدرها علماء الأزهر إثر قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 والتي جاء فيها "إن قرار هيئة الأمم المتحدة قرار من هيئة لا تملكه، وهو قرار باطل جائر ليس له نصيب من الحق ولا العدالة، ففلسطين ملك العرب والمسلمين ... وليس لأحد كائناً من كان أن ينازعهم فيها أو يمزقها ... اعلموا أن الجهاد قد أصبح فرض عين على كل قادر بنفسه أو ماله، وأن من يتخلف عن هذا الواجب فقد باء بغضب من الله وإثم عظيم"[74].

وفي عام يناير 1956 أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر فتوى تقول إن "الصلح مع إسرائيل - كما يريده الداعون إليه - لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه" وأضافت إن على المسلمين "أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها ...، وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل ... ومن قصَّر في ذلك أو فرَّط فيه أو خَذَّل المسلمين عنه أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار والصهيونية من تنفيذ خططهم ضد العرب والإسلام ... فهو - في حكم الإسلام - مفارق جماعة المسلمين ومقترف أعظم الآثام"[75].

وجاء في فتوى شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية الشيخ حسن مأمون "إن ما فعله اليهود في فلسطين هو اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يُجلوهم عن بلدهم، ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كلٍّ منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها داراً لكل مسلم فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولاً، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانياً، لأنهم وإن لم يُعتد على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هو جزء من البلاد الإسلامية.

... الصلح إذا كان على أساس ردِّ الجزء الذي اعتُدي عليه إلى أهله كان صلحاً جائزاً، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحاً باطلاً، لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلاً مثله".

وفي فبراير 1968 أصدر العلماء المشاركون في المؤتمر الإسلامي الدولي في باكستان فتوى جاء فيها "أن الصلح مع هؤلاء المحاربين لا يجوز شرعاً، لما فيه من إقرار الغاصب على غصبه، والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه. فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود المعتدين، لأن ذلك يمكنِّهم من البقاء كدولة في هذه البلاد الإسلامية المقدسة. بل يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهودهم لتحرير هذه البلاد".

وأعد د. محمد عثمان شبير دراسة حول هذا الموضوع بعنوان "حكم الصلح مع اليهود" سنة 1983، ثم اختصرها على شكل فتوى في أكتوبر 1989 جاء فيها:

"أما بعد ... فإن الصلح مع اليهود اليوم لا يجوز شرعاً لعدم توفر أي شرط من شروط عقد الصلح فيه. فقد وضع علماؤنا الأماجد شروطاً ينبغي أن تتوفر في عقد الصلح مع المحاربين من غير المسلمين ومن هذه الشروط:

الشرط الأول: أن يتولى عقد الصلح إمام المسلمين أو نائبه، فإن لم يكن فأهل الحل والعقد، ممن تنطبق عليهم المواصفات الشرعية، وإلا اعتبر العقد غير صحيح عند جمهور الفقهاء. وينبغي على إمام المسلمين ألا ينفرد بمثل هذا القرار الخطير، وإنما يجب عليه مراجعة العلماء العاملين الذين نذروا حياتهم لله تعالى ولمصلحة الأمة، وأي قرار يصدر على غير هذه الصفة فلا يصح.

والملاحظ اليوم أن قرار الصلح مع اليهود يتخذ في غياب العلماء المخلصين الحريصين على مصلحة الأمة، فلا يتحقق هذا الشرط في الصلح مع اليهود اليوم.

الشرط الثاني: أن يتحقق من الصلح مصلحة حقيقية راجحة: كتقوية المسلمين والاستعداد لجولة قادمة.

وبتطبيق هذا الشرط على الصلح مع اليهود اليوم، نجد أنه لن يحقق للعرب والمسلمين مصلحة راجحة، وتكون المكاسب الكبرى في هذا الصلح لصالح اليهود، إذ سيحصلون بموجبه على الاعتراف الدولي الكامل بهم، وهذا بالتالي سيؤدي إلى التغلغل الاقتصادي الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية، ونشر الفساد والانحلال في صفوف شباب الأمة، والقيام بدور الشرطي لضرب أي تحرك عربي وإسلامي صادق، وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة.

أما المصلحة التي سيجنيها الشعب الفلسطيني من وراء هذا الصلح فهي إقامة دولة هزيلة على جزء يسير من أرض فلسطين. فهذه المصلحة تتضاءل أمام المصالح التي يحققها الأعداء من وراء الصلح، فلا يتحقق هذا الشرط في الصلح مع اليهود اليوم.

الشرط الثالث: أن يخلو عقد الصلح من الشروط الفاسدة، ومثَّل الفقهاء لذلك باقتطاع جزء من دار الإسلام، وإظهار الخمور والخنازير في دار الإسلام.

وبتطبيق هذا الشرط على الصلح مع اليهود نجد أنه لا يتحقق فيه، لأن الصلح يقوم على مبدأ "مقايضة الأرض بالسلام" أي لا يمكن أن يتحقق الصلح بدون اقتطاع اليهود للجزء الأكبر من فلسطين. ومن جهة ثانية فإن الصلح سيؤدي إلى اختراق اليهود للمنطقة العربية والإسلامية لنهب ثرواتها، وإفساد شبابها، والقضاء على قوتها العسكرية والمعنوية. فلا يتحقق هذا الشرط في الصلح مع اليهود اليوم.

الشرط الرابع: أن يكون عقد الصلح مقدراً بمدة معينة، فلا يصح الصلح المؤبد، وبخاصة مع الغاصبين المعتدين على الأعراض والأديان والمقدسات.

وبتطبيق هذا الشرط على الصلح مع اليهود اليوم نجد أنهم يريدونه صلحاً دائماً، يتنازل بموجبه المسلمون عن جزء كبير من الأرض المباركة، ولا يجوز لهم أن يطالبوا بذلك الجزء المقطوع فيما بعد. ولضمان ذلك لا بد أن تكون تلك الدولة التي يسعى إليها رموز الفلسطينيين في الخارج منـزوعة السلاح أو مرتبطة في اتحاد كونفدرالي مع الأردن بحيث، لا تقوم لها قائمة في يوم من الأيام. فلا يتحقق هذا الشرط في الصلح مع اليهود اليوم.

فإذا كانت شروط عقد الصلح غير متوفرة في الصلح مع اليهود اليوم فلا يجوز الصلح شرعاً، ولا بد من أن تكون معاملة المسلمين لليهود قائمة على أساس الجهاد، وأنه الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، ويجب على المسلمين أن ينتبهوا جيداً لمخاطر الوجود اليهودي على الأمة الإسلامية، ويحذروا منها حذراً شديداً، ويخلصوا الأمة من السرطان اليهودي الذي غرس في جسمها، لئلا يستفحل أمره وينتشر خطره".

وعندما قامت م.ت.ف بعقد مجلسها الوطني التاسع عشر في منتصف نوفمبر 1988، واعترفت بالكيان الإسرائيلي وقرار تقسيم فلسطين، ودخلت بشكل حثيث في عملية التسوية السلمية. قام العشرات من كبار علماء المسلمين والشخصيات الإسلامية المرموقة وقادة الحركات الإسلامية بالتوقيع على فتوى في أواخر عام 1989 بشأن الصلح مع اليهود. وجاءت توقيعات هؤلاء العلماء من 19 بلداً (مصر، وفلسطين، والأردن، وسوريا، ولبنان، والعراق، والكويت، وعُمان، وتركيا، والهند، وأفغانستان، وماليزيا، وباكستان، والجزائر، والمغرب، والسودان، وتونس، وجزر القمر، وغينيا) وشارك في التوقيع الشيخ يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وغيرهما ... وكانت هذه التواقيع هي ما أمكن جمعه على عجل، دونما حملة منسقة مستمرة ... وقد جاء في الفتوى:

"ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق، أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين. وليس لشخص أو جهة أن تُقر اليهود على أرض فلسطين أو تتنازل لهم عن أي جزء منها أو تعترف لهم بأي حقٍّ فيها.

إن هذا الاعتراف خيانة لله والرسول وللأمانة التي وكل إلى المسلمين المحافظة عليها ... إننا نوقن بأن فلسطين أرض إسلامية، وستبقى إسلامية، وسيحررها أبطال الإسلام من دنس اليهود كما حررها الفاتح صلاح الدين من دنس الصليبيين. ولتعلمنّ نبأه بعد حين ..."[79].

وعندما وقعت قيادة م.ت.ف اتفاقات أوسلو في سبتمبر 1993 تتالت الفتاوى من علماء المسلمين في معظم بلدان العالم الإسلامي والمهجر بعدم جواز عقد الصلح مع الكيان الصهيوني. وكان أبرزها فتوى وقعها معظم العلماء المشار إليهم في الفتوى السابقة مع كثيرين غيرهم. وأصدر علماء فلسطين وعلماء الأردن فتاوى مماثلة.

وقد عكست هذا الفتاوى حقيقة أن التيار السائد بين علماء المسلمين (غير الحكوميين الرسميين أي غير المحسوبين على الأنظمة التي تدعم السلام ...) هو تيار رافض للتسوية، ويعتقد بحرمتها من وجهة النظر الشرعية.

وتكمن أهمية هذه الفتاوى في تأثيرها الشعبي الواسع على جماهير المسلمين في العالم، وفي أنها تمثل قاعدة انطلاق صلبة للتيارات والحركات التي تتبنى المقاومة والجهاد طريقاً للتحرير. كما أنها تمثل ركيزة هامة للوقوف في وجه التطبيع وإقامة أية علاقة طبيعية مع الكيان الصهيوني. وبذلك فإنهم تسهم في إبقاء وترسيخ حالة العداء، وتوجد حالة من التوتير الذي يجعل الانفجار في وجه العملية السلمية أمراً محتملاً عندما تنضج الظروف الملائمة له

ليست هناك تعليقات: