الأحد، تشرين الأول ٢٨، ٢٠٠٧

تقييمان لفلم "المملكة"

قراءة في فيلم <<الممــلكة>>

سوسن البرغوتي

لست هنا في معرض التعريف الشائك، أو ولوج ومناقشة مسألة الإرهاب، والتي لم تجد "أو على الأدق لم يسّع من أعلن الحرب على الإرهاب" حتى الآن لإيجاد تعريف لها، وهي بذلك دون تعريف وتوضيح تخلط بين الإرهاب كفعل إجرامي مرفوض على كافة المستويات، وبين المقاومة المشروعة بكل القيم والمعايير، وهي حق لكل الأمم المغلوبة والمحتلة والمضطهدة.

قراءة انطباعية لهذا العمل السينمائي، وقد تجنح للنقد أو الانتقاد. أركّز على مشاهد بعينها في الفيلم، أبرزت النظرة الأمريكية المتعالية والمتعجرفة والمضللة، ليس للآخرين فقط بل وفي الوقت نفسه لتضليل الشعب الأمريكي وشعوب الأرض كافة.

ألتقط من خلال عرض الفيلم بعض نقاط قابلة لكثير من الاستقصاء والجدل، وتوضح بما لا يقبل التأويل النظرة الاستعلائية والتضليلية في أمريكا للهيمنة على العالم.

أولا ـ إن الدين الإسلامي الحنيف عنوان "الإرهاب" كما يصورونه للعالم، والمجتمع السعودي مجتمع مسلم وليس متعدد الديانات، ما يلقي بالظلّ واضحاً من خلال الفيلم استهداف الإسلام.

ثانياً ـ ثمة رسالة تشير إلى أننا شعوب لا نحسن ولا نعرف كيف نحمي بلادنا، وإننا نحتاج دائماً إلى العملاق الأمريكي لإحلال أمننا الداخلي.

ثالثاً ـ إن بلادنا متخلّفة، وخارجة عن ركب التحضر وكأننا من كوكب آخر لا يمتّ إلى كوكب الأرض بصلة، وإننا الأبعد عن عالمهم المتحضر والمتطور.

رابعاً- ترسيخ ثقافة الكره المتبادل، وتصديرها للأجيال القادمة.

لا يعتبر الفيلم من الأفلام الأمريكية المركبة، لكنه يعرض وجهة نظر، وتصوّر واضح عن رد فعل "التطرف الإسلامي" حسب الرؤية الأمريكية، بصرف النظر عن الأسباب التي قادت إلى تكريس "ثقافة الكره المتبادل".
فلم يكن العرض بأي حال محاولة جادة لتفهم الآخر، ولا لفتح قنوات بين الطرفين المعنيين بالمشكلة، وبضراوة القتل الجماعي.

يبدأ الفيلم، بتسليط الضوء على مجمّع سكني بالرياض في السعودية مخصص لإقامة الأمريكيين، ولا أعرف ما القصد من إطلاق اسم "الرحمة" على التجمّع!، علماً أن أمثال تلك التجمّعات السكنية التي تخص الأمريكيين تتمتع بامتيازات ترفيهية ليست متاحة لعامة الشعب، ولكنه ربما تغيير في حروف مجمع آخر.
فظاهر المشهد أن سكان المجمع يمارسون حياتهم الطبيعية المرفّهة، كما يبدو حيّ التجمّع أكثر حيوية من كثير من أحياء العاصمة، وفيه تتمتّع النساء بالحرية المطلقة في الملبس، ويتمتع الجميع بحرية التحرّك بالهواء الطلق، وممارسة الرياضة الجماعية، خلاف الوضع العام السائد في المملكة.

الفيلم بشكل عام بسيط ولا يحتاج لإشغال الفكر، بمعنى أنه ليس من الأفلام المعقدة، ولا يحتاج إلى لقطات إبداعية تترك للمشاهد استنباط الجمع بينها، وقد يكون هذا جهد مخرج الفيلم (بيتر بيرج) لإيصال رسالته بسهولة، إلا أن هناك لقطات مقصودة تأتي بين الفينة والأخرى، تركّز على مئذنة مسجد مثلاً، وهي إشارة لطبيعة الصدام المسلح العنيف.
بشكل عام لم يكن موضوع الطرح مجرد تواجد طبيعي للجالية الأمريكية، بقدر ما كان يبرز نشاط الكثيرين من سكانه في العمل على زيادة وتفعيل التواجد المدني والعسكري الأمريكي.

لقد حاول المخرج تخفيف حدة العداء للإسلام باستضافة مجموعة استخبارتية جاءت من أمريكا، لمعرفة القتلة ومتابعة التحقيقات، وأخذ عينات من بقايا الأسلحة المستخدمة في تفجير تجمع حيوي يعج بسكانه، في مسعى لإبراز دور تعاون ضابط الشرطة السعودي مع الفرقة، وهو رجل ملتزم بالصلاة وعائلته ترتبط ارتباطا وثيقاً بالفكر والسلوك الإسلامي، والهدف من وراء ذلك، تخفيف حدة التهجم على الإسلام، وكأنه يريد أن يقول بأن ليس كل المسلمين كهؤلاء "المتطرفين"، ولكنه أخفق لتعدد المشاهد التي تدل على عكس ذلك.

الغريب في الأمر، مجريات التخاطب مع سفير السعودية في واشنطن، والذي لم يكن بأي حال وبأسلوب فظ، تحديد وقت الذهاب إلى موقع الانفجار دون استئذان.

نقاط عدة طرحها المخرج وأهمها، الترحيب الرسمي لفريق من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، وعدم تنسيق بين الشرطة والأمن السعودي، مما أدى إلى اشتباك مسلح بينهما، والمسموح أمنياً لدى طرف ممنوع على الطرف الآخر، مما يبرر تدخل الفرقة القادمة من وراء المحيطات "الأمريكيين" لاستعراض وإظهار قدراتهم "السوبرمانية" على فعل ما يريدونه.

الأهم من كل ما ورد، مشاعر الكراهية المتبادلة بين ما أطلق عليهم مجموعة – القاعدة- وزعيمهم أبو حمزة والحيّ الذي يقطنه، وبين سكان المجمّع. وقد يكون القصد من عدم التعرض إلى نشأة البغضاء، وإقصاء ضرورة تفهم منطق الآخر، هو طبيعة علاقة القوة المهيمنة المطلقة بآخر ضعيف لا يملك إلا رد الفعل، مهما كانت وسائله.

الأسلحة المستخدمة من المجموعة "المتطرفة"، بسيطة ومصنعة محلياً، واستعمال حبات رخامية ومسامير، لصناعة أحزمة ناسفة، للتدليل على أنها بشكل عام عصابة مارقة ولا تنتمي إلى أخلاق وفكر عامّة الشعب الراغب في كل وقت لتوفير الأمن والاستقرار كبقية شعوب الأرض، كما أن استخدام كرات الرخام في ألعاب الأطفال، دلالة على طريقة تفكير القائمين على العمل، وكأنها رسالة تقول بأننا نعلم أولادنا القتل منذ نعومة أظفارهم!.

المشهد الذي لم يعر له الكثير من المشاهدين اهتماماً، هو توبة أحد أفراد مجموعة أبو حمزة، وتوجهه لفتح محل للألعاب الالكترونية على الحاسوب الآلي، وبمجملها ألعاب تتطرق إلى القتال مع العدو!، وهذا يعني أن التوبة لم تجّب المبدأ في العمق الفكري له، وما زال حاضراً بقوة.

تتدخل الفرقة القادمة للتحقيق بأدق التفاصيل، وإظهار أن فرقة الضابط "فارس" ليست أكثر من مرافقين وحامين أمنيين لـ"الرامبو" الأمريكي، ما يومىء على عدم الثقة بقدرة الجهات المحلية بالتحقيق بالحادث، وأن العرب "أو كما قال أحدهم" إنهم ذاهبون إلى بلاد "نوعا ما أشبه بالمريخ"، ولذلك فهم -أي نحن- بحاجة إلى قوة الأمريكيين وخبرتهم لاكتشاف ما يحدث في بلادهم.

أما عقدة "الرامبو" تحديداً، فإنها تظهر بوضوح في الأفلام الأمريكية عامّة، وأن البطل يملك قدرات فوق قدرات البشر، فهو يقاتل ويلاحق ويحقق ويبحث ثم يخرج سالماً منتصراً. لعل مشهد حفلة إعداد أحد أعضاء الفرقة المختطف للاعدام بطريقة بدائية وبالاصرار على تصوير العملية واستخدام السلاح الأبيض من قبل المجموعة المسلحة، وهي محاطة بالمخاطر، تثير مشاعر السخف والاستخفاف بعقل المشاهد، لتنتهي بقتل المجموعة، ويبقى "سوبرمان" على قيد الحياة.

بعد القضاء على مجموعة أبو حمزة، ومن الواضح أنها من نفذت عملية التفجير في المجمع السكني لمدنيين وعسكريين أمريكيين، تظهر رسالة المخرج جلية لا التباس بها، عندما سلط الضوء على أبو حمزة وهو يحتضر، وإلى جانبه حفيده، وقد شاهد كل أحداث التصفيات الجسدية، ومن ضمنهم الأخ الأكبر للصغير، فكانت وصية الجد الأخيرة "اقتلوهم جميعاً"، وهي الرسالة نفسها التي قيلت من قبل الفريق الأمريكي في بداية مجيئهم إلى المدينة.

إذن رسالة المخرج ليست مسعى إلى التسامح، ولا في البحث عن المؤشرات والمعطيات التي قادت للصدام المسلح بين أطراف عدة، ويبدو أنه ليس معنياً بها، لكنه أصر على أن ثقافة القتل الجماعي المتبادل، هي سياسة المستقبل لكلا الطرفين...

فغاية القوة دائما هي شريعة التعامل مع الشعوب، لا تقبل رد الفعل في التدخل العلني واختراق لسيادة البلد، ولا تملك إلا سياسة عين السمكة التي تتجه إلى الأمام دائما في تصعيد الصراع، بدلاً من محاولة إيجاد حلول لاستئصال الكره المتبادل، واعتماد منهجية فكر متوازن للأجيال القادمة.
هل هناك مخرجاً أو وميض ضوء؟، حسب رؤية الفيلم، لا بصيص أمل والصراع مستمر!...

بقي أن أضيف أن المخرج حرص على إظهار أن القتل والكره المتبادل فعل وراثي وانتقامي، وتجسيد المخرج لهذا المنحى مقزز للغاية، فالشعوب لا يمكن أن تدخل في صراع أبدي قاتل ومدمر لحضارتها وتعوق دون تقدمها في منظومة تطور العالم إلى الأفضل.
وكان الأجدى البحث عن روابط إنسانية تقوم على مبدأ احترام حرية عامّة الشعوب في تقرير مصيرها وسلوك حياتها، وعلى الشعب الأمريكي أن يتخلى عن نظرته الفوقية، واعتبارنا مجرد عصابات تسعى للتخريب والتدمير، لكن ولأسباب استعمارية لا يريدون عن قصد إشغال الفكر في ذلك، ولا يسعون لإدراك أن هذا السلوك التضليلي، هو السبب في رفضنا القاطع لوجدوهم في بلادنا، وهذا الصدام العنيف لا بد أن يؤدي إلى مزيد من تطرف الجانبين.

من طبيعة الأمور أن تسعى الشعوب لحماية وجودها وأرضها من الاحتلالات المباشرة أوالتدخل بشؤونها الداخلية، بينما يسعى الطرف الآخر المعتدي لتثبيت سيطرته وسطوته بالقوة، وهذا حال الإدارة الأمريكية، فهي تحاول أن تعيد أمجاد إمبراطوريات قامت على الحرب والتدمير، لكن فاتهم أن مصير كل تلك الإمبراطوريات كان إلى زوال، فالتعايش السليم بين أبناء البشر هو الأساس وهو الفطرة، وأما افتعال الحروب وخوضها فهي ليست أكثر من أدوات تعمل على الفتك بالقيم الإنسانية وبني البشر.

إن شعوب العالم بأسره شعوب مسالمة، لكنها عندما تتعرض للغزو تصبح مكرهة على خوض الحروب لسلامتها وحريتها، ويبقى الفرق شاسعاً بين من يقاتل مكرهاً من أجل حريته ووجوده وانتمائه، وبين من يسعى إلى حروب وقتال بأشرس وأعتى القوة، ودون أدنى اعتبار للمعايير الإنسانية والأخلاقية لإيقاع احتلال أرض بشكل أو بآخر ونهب خيرات الشعوب الأخرى.

19/10/2007
http://www.arabiancreativity.com/kingdom.htm


________________________________



فيلم المملكة: خطاب دعائي لدعم إرهاب المحافظين الجدد

ودعوة للأقليات الأمريكية والعرب للانضمام لحروب أمريكا الخارجية


فيلم يقرأ أساساً من خلال أدوار شخصياته


نشر في العرب اليوم الأردنية في 21/10/2007


د. إبراهيم علوش

عندما يصبح فيلمٌ سينمائيٌ ما مجرد امتدادٍ ميكانيكي للموقف السياسي للمحافظين الجدد فيما يسمى "الحرب على الإرهاب"، وعندما ينبثق ذلك الفيلم من ثنايا الإشكالات التي كانت حكومة الولايات المتحدة تتذمر كثيراً أنها واجهتها في إقناع السعودية بالتنسيق معها أمنياً في المعركة ضد "الإرهاب"، وعندما يبدأ الفيلم على خلفية العمليات التي استهدفت مجمعات الأمريكيين السكنية في السعودية في عامي 1996 و2003، فإن الحديث يكون بالضرورة عن فيلم "المملكة" الذي أطلق في الولايات المتحدة الأمريكية في 28/9/2007.

وقد كلف الفيلم حوالي ثمانين مليون دولار، وهو يدخل ضمن فئة "الأكشن" والإثارة المعتمدة على تتابع الأحداث، لا على أسبابها، وعلى المهارات القتالية لممثليه في مواجهة "المسلمين المتطرفين"، دون اقتران ذلك برسالة إنسانية ما أو ببنية درامية معقدة، أو حتى بشخصيات تحركها دوافع نفسية عميقة على الأقل كما جرت العادة في الكثير من الأفلام الأمريكية. وهو بالتأكيد ليس فيلماً خيالياً أو معلقاً في الهواء، بل ينطلق من أحداث حقيقية، وظروف سياسية مباشرة هي الإشكالات المحيطة بالتعاون الأمني بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها.

وفي المجلد الضخم المعنون "الأسماء المشفرة: حل شيفرة الخطط والبرامج والعمليات العسكرية الأمريكية في عالم ما بعد 11 سبتمبر"، الصادر عام 2005، يخلص واضعه الكاتب والصحافي الأمريكي وليم أركِن في الفصل الخاص بالسعودية إلى أن التعاون العسكري الأمريكي-السعودي أفضل بكثير من التعاون الأمني. وهو يدعي نقلاً عن مسؤولين أمريكيين أن السي أي إيه لم تتمكن من تأسيس "علاقة يومية أصيلة" مع الأجهزة الأمنية السعودية كما ترغب، حتى بعد عملية الخبر عام 1996 ضد القوات الأمريكية وأحداث 11 سبتمبر، وبالرغم من تشكيل قوة تدخل مشتركة سعودية-أمريكية لمكافحة تمويل الإرهاب في آب 2003 وزيادة تبادل المعلومات بعد اعتقال عشرات المتعاونين مع القاعدة و"الإرهابيين" المحتملين في السعودية. وهذه هي الخلفية الحقيقية لفيلم "المملكة". والأفلام الأمريكية كثيراً ما تتألف من طبقات، أولها سطحي هدفه تجاري، وأخرها سياسي موجه.

وتقوم قصة الفيلم على رحلة لفريق من مكتب المباحث الفيدرالية، أف بي أي FBI، إلى السعودية للتحقيق في عدوان إرهابي على مجمع سكني أمريكي في الرياض يقتل فيه عدد كبير من المدنيين الأمريكيين بالإضافة إلى مسؤول مكتب الأف بي أي FBI في السعودية. ومن المعروف أن مجمعاً سكنياً أمريكياً تم تفجيره في 12 أيار / مايو 2003، وأن مجمعاً آخر تم تفجيره في الخبر في 26 حزيران / يونيو 1996 وأن تسعة عشر جندياً أمريكياً قضوا في تفجير الخبر. وفي الفيلم، أتى دخول الفريق الأمني الأمريكي للسعودية عنوة عملياً، ونتيجة ابتزاز مباشر لممثلي البعثة الديبلوماسية السعودية في واشنطن.

إذن لا حبكة معقدة أو شخصيات قلقة، كما تقول النيويورك تايمز في 28/9/2007، بل يهدف هذا الفيلم الخطي المباشر، وهو بالفعل فيلم تبسيطي سياسياً في تبرير أهداف تدخلات أمريكا الأمنية خارج حدودها، أن يحرض الشباب الأمريكي والعربي وأن يعبئهم جميعاً في "الحرب على الإرهاب". وهذا ما يبدو، أكثر ما يبدو، لا من الحبكة أو الأحداث، بل من خلال قراءة أدوار الشخصيات الرئيسية فيه.

فهناك أولاً دور ضابط الشرطة السعودي فارس الغازي (الممثل أشرف برهوم من الأراضي المحتلة عام 1948) المتعاون والمنسجم مع الفريق الأمني الأمريكي. وهدف الفيلم هنا هو أن يحرض الشباب العربي والمسلم على التعاون مع هذه الحرب، مظهراً ضابط الشرطة السعودي المكلف بمرافقة الفريق الأمريكي والترجمة له كأكثر عربي "كووول" في السعودية، ولا ينسى الضابط فارس الغازي (الممثل أشرف برهوم) الذي يلعب هذا الدور أن يضع "جل" على شعره وأن يلبس نظارة شمسية خلال الفيلم حتى مماته غدراً في النهاية، ولا يتوانى الضابط فارس الغازي إبان ذلك أن يبذل قصارى جهده لثني القوانين وتجاوز العوائق البيروقراطية المحلية لتسهيل مهمة الفريق الأمني الأمريكي. وهو يصور في نفس الوقت باعتباره رجلاً متديناً خلوقاً شجاعاً ذكياً محباً لعائلته... فهكذا يصور المتعاونون أمنياً مع الطرف الأمريكي-الصهيوني!

ويلاحظ أن الشخصيتين العربيتين الرئيسيتين في الفيلم هما الممثل أشرف برهوم والممثل علي سليمان، وكلاهما من الأراضي المحتلة عام 48، وسبق أن مثلا في فيلم "الجنة الآن" المعادي بحنكة سوداء للعمليات الاستشهادية في فلسطين...

وفي توقيته أتى فيلم "المملكة" تمجيداً للحرب في العراق وأفغانستان، بينما تواجه الإدارة الأمريكية صعوبةً بإقناع الشباب الأمريكي بالانضمام للقوات المسلحة الأمريكية. أما العمليات القتالية في الفيلم، فهي أشبه بألعاب الفيديو، وكذلك أزياء المقاتلين بالتي شيرت القطني الذي يضعون فوقه واقياً للرصاص أو لا يضعون. فمحاكاة ألعاب الفيديو يهدف الوصول لقطاع أصغر سناً من المشاهدين، من الخريجين حديثاً من الثانوية العامة، المهيئين للتطوع في القوات المسلحة الأمريكية.

وكذلك اختيار أبطال الفريق الأمني الأمريكي في الفيلم من فئة السود، أي الأمريكيين الأفارقة، ومن النساء، حيث بات هذان العنصران مكونين رئيسيين في قوات الولايات المتحدة في الخارج، فاستخدام الأقليات في الجيش الأمريكي كوقود لحروب أمريكا الخارجية - والمرأة تعتبر أقلية في أمريكا لا بحكم العدد طبعاً بل بحكم وضعها الاجتماعي الدوني مقارنةً بالرجل - هو مهم جداً لاستقطاب هاتين الفئتين للقوات المسلحة الأمريكية.

وباعتبار الأقليات عامةً أقل غطرسةً وغروراً من الرجل الأمريكي الأبيض في التعامل مع شعوب العالم الثالث، فإن جعل الشخصيتين الرئيسيتين في الفريق الأمني الأمريكي الذاهب إلى السعودية الممثل الأسود جيمي فوكس الحائز على جائزة أفضل ممثل، والممثلة جنيفر غارنر المشهورة بدورها في مسلسل "ألياس" Alias حيث تلعب دور عميلة سي أي إيه CIA متخفية في هذا البلد أو ذاك خارج أمريكا، مهمٌ جداً، من منظور أمريكي، للتواصل مع العرب والمسلمين، باعتبار أن العقل الاستشراقي الغربي هنا يفترض بأن الأقليات في الغرب ستكون أقرب لشعوب العالم الثالث من البيض من الرجال. ولو فهموا عقد النقص المتفشية في بلادنا، لعلموا غير ذلك!

وعودة إلى استقطاب الشباب الأمريكي للقوات المسلحة الأمريكية، فإن قائد الفريق الأمني الممثل الأسود جيمي فوكس يذكر في الفيلم اسم بلدته الحقيقية التي ولد فيها، وهي تيريل في ولاية تكساس، كبلدة صغيرة غير معروفة، وكونه أتى منها فعلاً يجعل دوره أقرب للتصديق. ومن المعروف أن نسبة كبيرة من المنتسبين للقوات المسلحة الأمريكية يتم استقطابهم من البلدات الصغيرة والفقيرة في الولايات المتحدة.

والحقيقة أن الفريق الأمني الأمريكي كان كله من الأقليات، اسمياً على الأقل. فدور العضو الثاني في الفريق، بعد قائده الأسمر جيمي فوكس، وهو دور المرأة المقاتلة جنيفر غارنر، مهمٌ باعتبار أن المرأة لم تعد تلعب دوراً ثانوياً في المجتمع، ولم تعد تجلس بالبيت بانتظار النصيب، ومن هنا أهمية إعطائها دوراً قتالياً رئيسياً لا تكون فيه حبيبة أو زوجة أو تتمة للرجل المقاتل كممرضة مثلاً، بل يتهكم الفيلم ضمناً على تقاليد المجتمع السعودي التي تهمش امرأة مقاتلة متفوقة مثل جنيفر بالرغم من تفوقها على الرجال في ما يفترض تقليدياً أنه مجالهم العسكري، وقد حرص المخرج كثيراً هنا أن لا يجعل شخصية جنيفر غارنر تبدي حتى نظرة إعجاب برجل خلال الفيلم، فهي ضابط محترف فحسب، وقد عوض المخرج عن ذلك، وكي لا يفهم أنها خالية من أي مشاعر إنسانية، بجعلها تتأثر كثيراً كلماً قتل أو جرح زميل لها في المخابرات أو ضحية بريئة (ولكن ليس من الإرهابيين طبعاً!)، وهو ما تم استخدامه منذ بداية الفيلم في تعزيز دافع الثأر من الإرهابيين كعنصر أساسي في التحريض على التدخل الخارجي الأمريكي العسكري والأمني.

أما العضو الثالث في الفريق، فهو الممثل جيمس بايتمان من نيويورك، وهو يلعب دور يهودي في الفيلم، يواجه مشكلة عند دخوله السعودية مع الفريق الأمني لأن جواز سفره عليه ثلاث تأشيرات دخول إلى "إسرائيل"، وعند سؤاله عن الأمر يقول للضابط السعودي مستنكراً بأن له أقارب في "إسرائيل" يذهب لزيارتهم، "فهل لديك مشكلة مع هذا؟!". ويدخل السعودية لممارسة التحقيق الأمني فيها بدون إشكالات طبعاً، وهو الذي يختطفه "الإرهابيون" ويحاولون جز رقبته أمام الكاميرا إلى أن تنقذه جنيفر غارنر المرأة المقاتلة ب"التي شيرت" الزيتوني التي تقتل كل الإرهابيين مع زملائها تماماً كما يحدث في ألعاب الفيديو.

أما العضو الرابع في الفريق فهو الممثل كريس كوبر، الذي يلعب في الفيلم دور خبير متفجرات، وهو رجل في السادسة والخمسين من عمره عند تصوير الفيلم، ومن المعروف أن القوات المسلحة الأمريكية رفعت سن الانتساب إلى الجندية إلى أوائل الأربعينات بسبب نقص الجنود لديها بعد العراق وأفغانستان، كما أن فئة المسنين في الولايات المتحدة Senior Citizens تعامل كأقلية.

المهم، يدخل الفريق ويقتل "الإسلاميين المتطرفين"، المتخفين في كل مكان (كما تفترض "الحرب على الإرهاب" الخالية من أهداف محددة جغرافياً)، بمساعدة "الإسلاميين المعتدلين"، ويخرج سالماً سوى بضع خدوش حسب تقاليد الكاوبوي الأمريكي الذي يعيد له الفيلم بعضاً من كرامته المفقودة في العراق وأفغانستان! ولا يعيق الفريق في مغامراتهم الرائعة هنا سوى مندوب وزارة الخارجية الأمريكية في السعودية، وهو رجل أمريكي أبيض يصور كشخص مزعج ضيق الأفق يحرص على البرتوكول الدبلوماسي أكثر من الصورة الكبيرة في محاربة "الإرهاب"، في إشارة للصراع التقليدي والحقيقي في الجهاز التنفيذي الأمريكي ما بين الأجهزة الأمنية والعسكرية من جهة، ووزارة الخارجية من جهة أخرى، على رسم السياسية الخارجية الأمريكية.

...الفيلم ذو الميزانية الضخمة تم تصويره في الإمارات العربية المتحدة بالمناسبة، وهو من إخراج بيتر بيرغ اليهودي من نيويورك، الممثل والمخرج والمنتج والكاتب الأمريكي ذو الشهرة المتوسطة.

ليست هناك تعليقات: