الاثنين، تشرين الأول ١٥، ٢٠٠٧

اليهود خارج فلسطين

د. إبراهيم علوش

يتمتع اليهود خارج فلسطين بصفتين متلازمتين تغطي إحداهما جيداً على الأخرى، أما الصفة الأولى فهي أنهم أقلية في المجتمعات التي يعيشون فيها، بما يحمله تعبير أقلية، خاصة في الغرب، من إمكانية التعرض للاضطهاد أو التهميش أو التمييز ضدهم من قبل الأغلبية، أما الصفة الثانية، فهي أنهم يتمتعون بوضع اجتماعي-اقتصادي متميز على الشعوب التي يعيشون بينها، خاصة في البلدان الغربية من الولايات المتحدة إلى أستراليا، وأن وجودهم المكثف - بنسب تفوق بأضعاف نسبتهم بين السكان - في المفاصل الأساسية للمجتمعات الغربية، ونفوذهم المستشري في قطاع المضاربة المالية والبنوك إلى قطاع مؤسسات صنع القرار السياسي إلى وسائل الإعلام والثقافة والترفيه كهوليوود مثلاً، تجعل الحديث عنهم كأقلية مضطهدة مجرد استخفاف بعقول الناس...

واليهود ليسوا قومية، كما نعلم، بل ديانة تسرب منها كثيرٌ من أبنائها عبر الزمن، وليسوا عرقاً أو سلالة، بل أخلاطاً عرقية ورثت منظومة من القيم الثقافية الناتجة عن دورهم التاريخي كجماعة وظيفية مارست التجارة والحرف في المدن والربا وجمع الضرائب لمصلحة الإقطاعيين، بدلاً من الزراعة والجندية والخدمة العامة. وقد كرس حاخاماتهم انفصالهم عن الشعوب التي عاشوا بينها حرصاً على عدم ضياع نفوذهم على عامة اليهود، فنشأت في مستنقعات هذه الغيتوات اليهودية، ومن ثنايا دورها الاجتماعي-الاقتصادي الطفيلي في أوروبا خاصة، عقلية التقوقع والانعزال، عقلية العداء للمحيط والخوف منه في آنٍ معاً، وضرورة استغلاله والتلاعب به والسيطرة عليه وتفكيكه من أجل الحياة، وبالتلازم، ضرورة القضاء المسبق على أية انتفاضات شعبية كانت تستهدف عامة اليهود في أوروبا في الأزمات بسبب دورهم الربوي الكريه وكوسطاء للسادة الإقطاعيين، وكجماعة طفيلية لا يتناسب نفوذها السياسي والاقتصادي أبداً مع حجمها العددي في المجتمع.

وكان من الطبيعي أن تنشأ، على قاعدة هذا الدور وهذه العقلية، شبكة من العلاقات ما فوق القومية بين الغيتوات اليهودية المنتشرة عبر القارة الأوروبية وعبر المحيطات كانت تعزز الدور السياسي والتجاري لليهود، وتجعلهم في آنٍ معاً موضع حسدٍ كبيرٍ من التجار الأغيار المحليين، وفاقدين للهوية الوطنية وللانتماء القومي للبلدان التي ولدوا وعاشوا وعملوا فيها. فاليهودي ينتمي للشبكة العالمية لليهودية قبل أي شيء أخر، لا بل أن مصطلح Cosmopolitan ، أو كوزموبوليتيكي، بمعنى "مدني عالمي"، فاقد للهوية والانتماء الوطني، كثيراً ما كان يقصد به اليهود في أوروبا دون غيرهم، وكذلك كان يستخدم في أوروبا الشرقية، خاصة في روسيا وبولونيا في بداية القرن العشرين.

ومن هنا، ارتبطت اليهودية كمنظومة ثقافية، حتى بشكلها العلماني غير المتدين، بالحديث عن "الإنسان"، مقابل الحديث عن الأمة أو الوطن، وبجهد فكري دائب لتحقير الثقافات القومية ورموزها، وبالشبكات والجمعيات السرية الممتدة عبر الحدود، وبالمؤامرات الدولية، والأهم، بمنهج افتراس غير اليهود بالمكر والخديعة، و"الذكاء" المتجرد من أي ضابط أخلاقي، تماماً كذكاء الخفاش المنكب على دماء وريد الخيل في عتمة الليل.

وقد وصف كارل ماركس اليهودية (وليس الصهيونية)، في كراسه "حول المسألة اليهودية"، بأن اليهودية تصبح عقيدة النظام الرأسمالي برمته في مرحلته العليا، مرحلة تفككه وانحلاله، ولا يهم هنا أن يكون كثيرٌ من المنتمين إلى هذه المنظومة الثقافية اليهودية من غير المتدنيين، إذ "لا يجب أن نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي... ما هو الأساس العملي لليهودية؟ المصلحة العملية والمنفعة الشخصية..."، ويضيف الكراس بعدها: "المال هو إله إسرائيل المطماع... هذا هو الإله الحقيقي لليهود... وقومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال". وقد اقتطفت من كراس ماركس من أجل العلمانيين واليساريين الذين لم يتخلصوا بعد من عقدة التعاطف المرضي مع اليهود!

نحن إزاء عقلية ذئبية إذن، أو إزاء حقيقة الخفاش مصاص دماء البشر بالأحرى، أي إزاء الثقافة اليهودية، وهي نفس الثقافة التي تنتج عنصرين أساسيين أخرين من توجهات اليهود السياسية، بغض النظر عن مدى تدينهم، وهما: 1) فكرة "أرض الميعاد"، أي احتلال فلسطين كوطن قومي لليهود، و2) فكرة "شعب الله المختار"، أي التعالي على غير اليهود وافتراسهم، أي العنصرية.

والمقصود أننا لا يمكن أن نتعامل مع قضية فلسطين كاحتلال موضعي فحسب. فقد كنا نواجه منذ البداية شبكة دولية، شبكة متغلغلة في نسيج القرار الدولي، ولا نواجه احتلالاً مثل احتلال فرنسا للجزائر مثلاً كي يقول بعضنا ما معناه أن كل فرنسي لا يحتل الجزائر ليس عدواً، أو كل أمريكي لا يحتل العراق ليست لنا مشكلة معه!!!

مع اليهود، كنا نواجه منذ البداية ثقافة ذئبية "كوزموبوليتية" تعاني منها شعوبٌ عدة، لا نحن فحسب، وكنا نواجه منذ البداية مشروعاً كونياً وحركة عالمية، كنا نواجه اليهودية العالمية كمؤسسة دولية، وكثقافة باتت جزءاً من ثقافة وبنية المؤسسة الحاكمة في الدول الإمبريالية.

والمعنى ببساطة أن كل يهودي خارج فلسطين لم يتساقط خارج المنظومة الثقافية اليهودية الآنفة الذكر، تلك المنظومة الكوزموبوليتية، هو عدوٌ ليس لنا فحسب، بل لكل شعوب الأرض.

وكما أشرت في كتابات أخرى، ليس صدفةً أن يتم تبني "المحرقة" رسمياً من قبل الأمم المتحدة، كعقيدة يمنع نقاشها تحت طائلة العقاب، وكعقيدة تجعل اليهود أكثر أقلية مضطهدة في تاريخ البشرية، في الوقت الذي: 1) تكرست فيه العولمة كتيار يسعى إلى إضعاف وتفكيك السيادة الوطنية والثقافة القومية للشعوب، 2) تكرست فيه ضمن النظام الإمبريالي هيمنة القطاعات غير المنتجة في الاقتصاد، القطاعات الربوية والمالية، على القطاعات المنتجة الصناعية والزراعية والتجارية. أي مع ازدياد تغلغل اليهود ودورهم في النخب الحاكمة في "النظام الدولي الجديد" الذي لا يقوم عليهم وحدهم طبعاً.

والطريف الآن طبعاً أن تجد الجماعات الفلسطينية في الغرب اليوم تحرص أشد الحرص على جعل اليهود في مقدمة قياداتها لكي تضع البرامج وتحدد السقف السياسي "للتضامن مع القضية"، ولكي تنفي عنهم تهمة "معاداة السامية"، ولكي تعوضهم عن عقد النقص إزاء اليهود...

ليست هناك تعليقات: