الأربعاء، تشرين الأول ٣١، ٢٠٠٧

جدلية الوحدة والتحرير

د. إبراهيم علوش

منذ خمسينات وستينات القرن العشرين والناس يتجادلون في بلادنا أيهما يأتي أولاً: الوحدة أم التحرير؟ هل يجب أن نوحد الأمة أولاً كي نتمكن من تحقيق التحرير؟ أم أن التحرير ممكنٌ بدون وحدة، والتحرير مهمةٌ عاجلة لا تنتظر الوحدة؟ هل يجب أن نبني قوانا عبر ومن خلال دولة الوحدة أولاً كي نتمكن من تحرير فلسطين وغيرها من الأراضي العربية المحتلة، أم أن المهمتين منفصلتان، ويمكن أن تسيرا بشكلٍ متوازٍ، ولا تعتمد إحداهما على الأخرى بالضرورة؟

وقد انقسم الجمع في هذه المسألة إلى معسكرين، أحدهما يرى أولوية الوحدة على التحرير، والأخر يرى أولوية التحرير على الوحدة. فأما من رأى أولوية التحرير على الوحدة، فقد انخرط في العمل السياسي على الصعيد القطري، ومن الأمثلة على ذلك طبعاً حل حركة القوميين العرب لتشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأما من رأى أولوية الوحدة على التحرير، مثل بعض الأنظمة والأحزاب القومية التوجه، فقد أعطى لنفسه صلاحية تقديم بعض التنازلات على جبهة الصراع العربي-الصهيوني باعتبار أن الأولوية تكمن في بناء دولة الوحدة!

والحقيقة أن تاريخنا العربي المعاصر يعطينا واحداً من أهم الأمثلة على حدوث تحرير بدون وحدة أو مشروع قومي هو مثال تحرير جنوب لبنان عام 2000. ويمكن أن نضيف إلى هذا المثال حالة التحرير الجزئي لقطاع غزة. وفي هاتين الحالتين، جاء التحرير نتيجة عمل شعبي عربي منظم (أي ليس مباشرةً عن طريق نظام رسمي عربي)، ومن خلال قوة أو قوى محلية غير مرتبطة بمشروع قومي بل بمشروع محلي. ولا شك أن أمثلة العراق والصومال ولبنان وفلسطين تثبت أن نشوء واستمرار مقاومة شعبية مسلحة ممكنٌ بدون وجود دولة وحدة. فالطاقات المحلية يمكن أن تنتج مقاومة فعالة، وأن تخلق ساحات اشتباك، وحتى أن تحرر هذا الجزء أو ذاك، وأن تضع عوائق حقيقية في وجه تقدم المشروع المعادي، تماماً كما شلت المقاومة العراقية تقدم مشروع "الشرق أوسطية" في الإقليم. وعندما تفعل المقاومة المحلية ذلك، فإنها تكتسي لوناً قومياً، ودوراً قومياً، وتتلقى بالتالي دعماً حقيقياً من باقي الأمة.

ولكن هل يمكن أن يُهزم المشروع الصهيوني في المنطقة، بكل ما يمثله، من وجود عسكري ووزن سياسي ودعم إمبريالي، على يد قوى شعبية محلية فحسب، بدون مشروع قومي، أو بدون دولة وحدة؟ وهل يمكن أن تتخلص الأمة ككل من التبعية (الاحتلال غير المباشر) بدون مشروع قومي؟ هل يمكن أن تتخلص دول الخليج العربي مثلاً من الوجود العسكري الأمريكي بدون وجود دولة وحدة تحمي الأمن القومي في منطقة الخليج العربي؟ وهل يمكن أن نحرر لواء الإسكندرون والأحواز والجزر الثلاث بدون دولة وحدة عربية؟

الحقيقة أن تحرير جنوب لبنان يختلف نوعياً عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعن تحرير الأمة من الهيمنة الإمبريالية المباشرة وغير المباشرة، وعن القدرة على تحرير الأراضي العربية المحتلة من الدول المجاورة، من أثيوبيا إلى إيران إلى تركيا إلى إسبانيا. فالطاقات المحلية والقدرات المحلية يمكن أن تحقق أهدافاً موضعية لمصلحة الأمة، وأن تلعب دوراً قومياً من الناحية الموضوعية، أي كتحصيل حاصل وليس نتيجة وجود مشروع قومي واعٍ. ولكن شتان ما بين هذا وما بين تحرير الأمة وأرضها من الاحتلال المباشر وغير المباشر.

فالتحرير الكامل بهذا المعنى لا يمكن أن يتحقق بدون دولة الوحدة. والتحرير الموضعي بدون دولة الوحدة يبقي تحريراً غير ناجزٍ، ويبقي المقاومة محاصرة سياسياً أو عسكرياً، كما في لبنان أو غزة.

وليس المقصود بدولة الوحدة أن الوطن العربي بأسره يجب أن يتوحد قبل أن يتحقق مشروع التحرير. فمن يصر على هذا، كبعض القوميين الرسميين الذين يصرون على نشوء سوق عربية مشتركة أولاً، يحاول فعلياً أن يتهرب من مهماته على الأرض، بالتحديد، مهمة مقارعة الطرف الأمريكي-الصهيوني بالسلاح. فدولة الوحدة نفسها لا تنشأ إلا في أتون المعارك الدموية مع الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه.

المقصود بدولة الوحدة إذن هو نواة دولة الوحدة التي تحمل مشروعاً قتالياً، مثلاً، الدولة التي شكلها صلاح الدين الأيوبي من شمال العراق وأجزاء من سوريا والأردن ومصر، فأطبقت كفكي كماشة على دولة الفرنجة وسحقتها. إذن دولة الوحدة هي نواة مقاتلة للوحدة الشاملة، وهي مشروع تحرير في آنٍ معاً، وفقط عندما يصبح مشروع التحرير مشروعاً قومياً يصبح التحرير ممكناً، وفقط عندما يصبح مشروع الوحدة مشروعاً مقاتلاً، تصبح الوحدة ممكنة. وهكذا نضع العلاقة الجدلية بين الوحدة والتحرير بإطارها الصحيح: التحرير الحقيقي يحتاج لنواة وحدوية ومشروع قومي، والوحدة لا تقوم بدون مشروع تحرير مقاتل جماهيري وعسكري.

ليست هناك تعليقات: