الثلاثاء، تموز ١٠، ٢٠٠٧

استقبال خجول لا يليق بابطال ... وانتقائية في اختيار القنوات الفضائية

خلال استقبال الاسرى الاردنيين الاربعة قبل ايام

استقبال خجول لا يليق بابطال ... وانتقائية في اختيار القنوات الفضائية

ريمون رباح

سبعة عشر عاما وهم يقبعون خلف قضبان الانتظار .. لا يبارحون مطارحهم , يحرقون أعقاب السجائر المهملة ليستعدوا لغد آخر اعتقدوا انه سيكون لا بد بين أحضان أمهاتهم وأهلهم ... سبعة عشر عاما عشقوا فيها زنزاناتهم فأدمنوا فيها مقاومتهم للمحتل الصهيوني , لم تربطهم بالأرض سوى غضبهم على تلك الدماء التي روت هذه الأرض المقدسة .
كان ينتظر الاحتلال ان يرجع الأسرى الأردنيون الأربعة إلى وطنهم أذلاء , دون استقبال يليق بأبطال ... فالتفوا على أنفسهم كالشرنقة وقالوا لأهل الأسرى أن " سجنائكم " سيصلون غدا ... وجاء الغد ولكن لا من مجيب ... جاء الغد مع شروق الفجر فمنهم من لم ينم ليله , وهو يتخيل : ترى كيف سيكون شكله ؟ كيف هي نبرة صوته ؟ كيف سيقابلني ؟ هل سأركض نحوه وأضمه وابكي بحرقة على صدره واخبره بان غيابه طال ؟ ترى هل سيعرفني أم أنني سأقول له أنني أمك وأختك واني أبوك وأخوك , ولربما اضطر لأقول له أبي أنا ابنك الذي لم تعرفه بعد ؟
أسئلة كثيرة جابت مخيلتهم حول أربعة رجال قضوا من عمرهم سبعة عشر عاما محاصرين بين جدران زنزانة , وبين جدران انفرادي ... إنهم لا يعرفون الهواء الذي نتنفسه ولا يعرفون كيف شكلها الدموع , ولا يعرفون كيف هي عمان الجديدة , بعد سبعة عشر عاما بين جدران سجن كبير يتسع لنا جميعا ... كل هذه التساؤلات حملتها أمهات مكسورات الخاطر وآباء فقدوا من الأمل ما يجعلهم يدركون أن الحرية باتت مجهولة الهوية لأبنائهم , ومنهم من فقد بصره من كثره البكاء على ابنه كوالد سلطان العجلوني ...
حملوا همومهم إلى جسر الشيخ حسين يستنجدون بصفقه لا تعني لهم إلا أن أبنائهم سيصبحون تحت كنفهم بعد فترة وجيزة , لم يهمهم إذا كانت الصفقة مذلة أم مهينة كل ما أهمهم أن يروا فلذة أكبادهم يعودون صغارا لتعانقهم الأذرع من جديد ... لكن الوصول إلى الجسر كان يعني لهم مزيدا من الانتظار ومزيدا من الجوع ومزيدا من الاحتراق بنيران الشمس من جهة وبنيران الانتظار من جهة أخرى ..
ست ساعات ونصف عاشوها بحلوها ومرها تحت نيران الشمس تارة وتحت نيران الجوع تارة أخرى , فالمركز الحدودي لم يقدم لهم حتى ( الفلافل ) ليسد بها جوع نساء ورجال تجاوزوا الخامسة والستين من عمرهم , بقي الانتظار سيد الموقف ... حتى حان الوقت لإطلاق ناقوس الإنذار , كان الوقت يمر طويلا ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة , وتأتيهم تطمينات زائفة بين الفينة والأخرى بان أولادهم قد يصلوا في أي لحظة , قد تبت المحكمة بالحكم بأي لحظة ... نعم قد يصلوا بأي لحظة ... , ولكن لم يتساقط المطر يومها ليشفي جفاف عيونهم الحائرة ... حتى جاءت تلك اللحظة التي ما عاد ينفع فيها المزيد من الكذب والمزيد من القهر لهذه الأمهات الصابرات , كانت لحظة الحقيقة تبشرهم بان عليهم أن يعودوا أدراجهم لان أيدي أبنائهم ستبقى مكبلة بالأصفاد ليوم آخر بعد ..
عادوا أدراجهم يحملون الضعف والانكسار في قلوبهم ... تلك اللحظات كانت بالنسبة لهم سبعة عشر عاما أخرى , وكانت بالنسبة " للعربية " تنتصر فيه على كل القنوات العربية حيث أنها القناة العربية الوحيدة التي سمح لها بالدخول إلى داخل المركز الحدودي لتغطيه الحدث , ولم يسمح للجزيرة أو غيرها بنقل الحدث في نوع جديد وشكل أخر من أشكال القهر , وتمييز جديد لوسائل الاتصال والبث التلفزيوني وللتحكم بالمادة الصحفية التي ستطرح على الشعوب ...
لقد كانت وسيلة فعالة لتضييق الخناق على الكل بان ما سينشر لن يخرج عن إطاره الرسمي ولن تكون فيه أي مشاعر بطولة أو عز او افتخار ... وما هذا إلا جزء من الهيمنة على مشاعر الشعوب وانتقاص افتخارها بأبطالها أمثال سلطان العجلوني وخالد أبو غليون وسالم أبو غليون وأمين الصانع , وهذا ما ظهر جليا للشاهد العيان .
ولأسباب ادّعوا أنها أمنية كان على كل الصحفيين أن يكتبوا أسمائهم وصحفهم التي جاءوا منها ليتسنى التأكد من أنهم ليسوا مشاغبين , والمشاغبون منهم قد يمنعوا من الدخول إلى أماكن تواجد الأسرى الأربعة كي لا يطير تصريح غير مرغوب فيه مع نسمات الرياح المفقودة في الغور الشمالي إلى وسائل الإعلام العربية والأجنبية .
اليوم الثاني كان اقل قهرا من سابقه لكنه ايضا لم يخلو من المزيد من الحرمان ... خرج الاسرى من معتقلات العدو مكبلة اقدامهم باصفاد حديدية , كان يرتسم الجمود على محيّاهم , وحتى سلطان قبل ان يصعد الى السيارة التي ستقودهم الى وطنهم نظر للخلف وتفوه كلام لم يفهمه احد غيره وغير الموجودين حوله من سجّانين صهاينة والاسرى الاخرين , ان هذه الحركة بالذات كان وكانه يرفض فيها خروجه من الاسر و الى " السجن " في بلده فيبدو ان الدقائق العشر التي حاول فيها شقيقه الاكبر اقناعه بها ان يوقع على وثيقة الانتقال من السجون الصهيونية لم تكن مقنعة بدرجة كافيه له الا ان علمه بشوق والديه لرؤيته وقف حائلا بينه وبين اصراره على الحرية بدلا من السجن في بلده .
وعندما حطت اقدام الابطال الاربعة ارض الاردن انطلقت الزغاريد من اهلهم وذويهم والموجودين حولهم لكنها لم تكن تلك الفرحة التي تليق بأبطال قضوا زهرة عمرهم بين جدران مهترئة تعتريها رائحة العفن والموت , الا ان ذويهم كان يكفيهم اقل القليل حتى يصل يوم يروا فيه ابنائهم محررين من تلك القيود الحديدية المقيته ...
ان الانتقائية في اختيار القنوات الفضائية التي ستغطي الخبر كان مثيرا للشك ومدعاه للتساؤل حول الاسباب الحقيقية وراء ذلك . الا ان الحاجة في النهاية الى تحرر الاسرى مبدئيا من قيود الاحتلال كان مرضيا على مضض للأسرى انفسهم الذين لم يستطيعوا ان يطلقوا العنان لانفسهم بالبكاء في احضان امهاتهم .

ليست هناك تعليقات: