الاثنين، تموز ٣٠، ٢٠٠٧

بيروت- العبدلي مباشر

خطوطي في كف الحريري من يقرأها؟

محمد لافي "الجبريني"



-ولك وين يامعلم وقّف وقّف!!
بعد كيلو ونصف يقف ويرد بإمتعاض
-الله يلعن ... أختها من شغلة، ولكو ياعالم ماهو إنبرى لساني وانا احكي الخط تغير.. يا بجم!
-شو تغيير ما تغيير؟ ولك ياعمي دافع ثلاثين قرش وهسا جاي تقلي تغيير، مش نازل لما ترجعلي المصاري!
-طب انزل، لأخلي راسك صفيحة تحت عجال الباص!
يتدخل صوت نسائي أجش
-خلص اقعد يا بنيي، وشو دخل الزلمة..توجه الحديث للشوفير.. الله يرضى عليك ياخالتي والله مابنعرف إنهم ناقلين المجمع، إلي مراجعة في المستشفى الاسلامي وانا جاييه من الضفة وما بعرف طريق غيرهاي، الله يخليك لشبابك، إخزي الشيطان ولف!
-ولكو ياعالم ابتفهموش؟ هاظ مش باص اللي نفضني، هاظ باص الدولة، وانا مليش دخل، اللي عاجبه يكمل واللي مش عاجبه ينزل..
وننزل..
***
هكذا كان، اليوم الاول للآلاف من مواطني هذا البلد، خصوصا ممن هم يتناثرون كل صباح على قوارع الطرق، بإنتظار مرور الحافلة، التي اصطلح على تسميتها (الجحش)- لتجحيشها المستمر مع كل طلعة ترسم ملامح مدينة عمان.
كلهم سمعوا طوال سنوات أن العبدلي –مجمع السفريات المبسوط كملعب مصارعة روماني بين جبلين مترهلين وسط عمان- سيشيع الى مثواه الاخير، وكلهم عاينوا على مدى السنوات الأربع الاخيرة التغييرات الجذرية التي بدأت تعبث بجسد عمان الاكثر حيوية، قبل ان تنتزع روحه في مجمع السفريات.
بعد ان كانت قد شوهت معالم وجهه آليات "سعودي اوجيه" التي اعملت هدما وتدميرا في واحدة من اكثر المناطق إحتشادا ورعبا في ذات الوقت، وهو المحاط بكل مراكز الجيش والشرطة والبوليس.
ومن يجرؤ؟!!
اذكر قبل سنوات ان الناس كانت حين يمر الباص من امام مبنى المخابرات القديم، والآلات تشرع حفاراتها وجرافاتها تدميرا فيه بلا هوادة، تفتح أفواها مشدوهة غير مصدقة بأن احدا في العالم يتجرئ على هذا البناء الابيض بالخطوط الزرقاء، بل أستطيع ان اجزم ان الكثيرين منهم أصيب بغصة حزن، وهو يرى ذكريات له تحملها الجرفات بقسوة الى القلابات لترمي بها، ربما على طريق الحزام، وربما في صافوط، دون مراعاة لمشاعر كل من زار هذا المبنى من كلى الاتجاهين.. السجان والمسجون!
وردة على قبر عائلة
كلهم عرفوا ذلك، إلا ان احدا لم يصدق أن يوما سيأتي ولا يجد العبدلي، كما لم يصدق أحدا يوما ان سعدا سينقل ساحة ابيه من بيروت الى قلب عمان، حيث لا (نصرالله)، لا( يكن)، ولا (عون)، اللهم إلا أبو غزالة.
إنتقل العبدلي بهدوء وكل سلاسة، فلا مظاهرات ولا إعتصامات-اللهم الا على دوار الداخلية والمدينة بإنتظار الفرج- ولا عداد أسفل شاشة التلفزيون الاردني يطالب بمحكمة دولية لمن إغتال أرزاق ألاف العائلات الفقيرة التي كان العبدلي بحر أسماكها الذي جف قبل حتى جفاف البحر الميت، بهدوء لكنه صاخب في الحافلات الاتية من الشمال والقادمة من الجنوب، من الشرق ومن الغرب، فيفرغ الجميع غضبه في كونترول باص أو بائع علكة على الاشارة.
موقف سيارات الضفة الغربية الذي كان يترك مكانه كل جمعة لباعة الملابس المستعملة، سيتركها للأبد لتصفر فيها الرياح، أو افواه العشاق البرجوازيين، بعد بناء الحديقة الخيالية الموعود بها سكان اللويبدة وجبل الحسين، وطلبة الجامعة الامريكية القادمة مكان مقارات الجيش.
المسافرون سيرحلون، الى الابد هذه المرة، يحملون قبلهم ودموع الوداع في حقائب جديدة تتناسب والمجمع الجديد في طبربور.
على راسي كل الكراسي، والحزين يطلع برة!
غصة في حلق المشروع كانت أمل المسافرين اليوميين بربع دينار، إعتصام ابو غزالة الذي اعلن تمرده على رأس المال الخارجي، كل رواد الحافلات من الوحدات حتى اربد او الشام، من الزرقاء حتى الضفة الغربية. لهجت قلوبهم بالدعاء لله ان ينصر مكتب ابو غزال الاقليمي في وجه فرع الحريري التقليمي، حتى سطوة الامانة لم تنل من صمود ملايين أبو غزالة الصامدة والرافضة للرحيل، وشرطها الوحيد للتخلي عن مبناها هو ان يتخلى الحريري عن بيته في عكار.
الحريري لن يبيع بيته، وأبو غزالة لن يخرج الا راضيا بعد التراضي وراء المكاتب المغلقة على الكراسي المنجدة، بواسطات رفيعة المستوى، ليس من مصلحتها "حرد" رأس المال، في النهاية الملايين الاكثر ستضوي الملايين الأقل، والملاليم الباقية ستستنزفها المواصلات المستحدثة.
أرفع اصبعي بأدب!
أخشى أن يظن أحد أن لدي اعتراض على ما حدث. بالعكس، فأنا أكثر سعادة بالتقدم، ومن مؤيدي اي نهضة، ومع الاستثمار، وحتى لو لم اكن مع ذلك فمن انا لأعترض، موظف حزين براتب في قعر خط الفقر هو 160 دينار، لا محل لي من الاعراب الا كمفعول به، أو غير معرف بغياب أل التحريف وحضور لا التجريف، لكن عندي أسألة أفكر في إجابتها ولا اجدها..
اكشاك السجائر، بسطات البالة –الملابس المستعملة التي لا نرتدي سواها، بار البيكاديلي بسواحه الصعاليك، ومقهى عمون بصفصافه وكينياه وصعاليكه المثقفين.. الخ هل ستنتقل كلها الى طبربور أم ستعلق صورها في المتاحف الرومانية؟
هناك زيادة مضاعفة عدة مرات ستحصل بلا شك في المصروف اليومي، أجرة الباصات، إستهلاك دواء السكر، الضغط، البواسير..الخ وفي ضربات الشمس، واستهلاك الوقود، المسافة سيرا على الاقدام، حالات الفصل من العمل بسبب التأخير، الطلاق، التحرش الجنسي، التسول، بيوت الصفيح وباعة أثاث المنازل والملابس على الارصفة..
وهناك بالمقابل تناقص سنلاحظه بلا شك في الجيوب، الامعاء، الدماغ ، الوزن، والهجرة من الريف الى المدن..
فهل ستتم بناء على ذلك خصخصة مستشفى البشير؟!
بالنسبة لي فأنا سأمشي، ما استطعت الى ذلك سبيلا.. سأمشي ولكن من اي طريق؟!

ليست هناك تعليقات: